مما لا شك فيه ان مسألة العلاقة بين السلطة التنفيذية والاحزاب السياسية كانت على الدوام موضع اهتمام واسع من قبل الباحثين ورجال الدولة والقانون وعموم المهتمين بالشأن السياسي. ويقيناً أن حجم هذا الاهتمام يتعاظم في اوقات الازمات والمنعطفات السياسية الحادة، التي تفضي في بعض الاحيان الى ما بات يعرف بالانسداد السياسي، الذي هو احد مظاهر الخلل في تطبيق واحدٍ من اهم المبادئ التي تخص بناء الدولة وهو مبدأ فصل السلطات. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان هذا الانسداد يؤشر الى غياب القواعد الدستورية الرصينة والواضحة، التي من شأنها التحسب والوقاية مما يمكن ان يصيب العملية السياسية، لا سيما وان زمناً طويلاً قد انقضى على (ابتكار) وتفعيل مبدأ فصل السلطات وتوازنها والتأسيس لبناء ديمقراطي متقدم.
وبقدر تعلق الأمر بالعلاقة بين السلطة التنفيذية (الحكومة) والاحزاب السياسية فانه قد يبدو للوهلة الاولى بأن لا علاقة للأحزاب بمبدأ الفصل بين السلطات، ذلك لأن هذا المبدأ يخص بالدرجة الاولى سلطات الدولة ومؤسساتها الرئيسية، غير أن التعمق في دراسة طبيعة الاحزاب السياسية سيقود بالضرورة الى حقيقة جلية وهي أن الاحزاب السياسية، بحكم طبيعتها القانونية وتركيبتها الداخلية ومجالات نشاطها، وحتى شروط نشوئها، تختلف عن اجهزة الدولة، إلا انها على صلة وثيقة بتلك الاجهزة، ذلك انها (الاحزاب) تسهم بشكل فعال ومباشر في تكوين تلك الاجهزة، وذلك من خلال التصويت في اجهزة الدولة التمثيلية-التشريعية (البرلمانات) على تشكيل تلك الاجهزة، وكذلك الرقابة على عملها من قبل نواب الكتل الحزبية الفاعلة في اللجان البرلمانية المختلفة. وهنا اجد لزاما التذكير بأن تاريخ الحياة السياسية والدستورية للبلدان ذات الانظمة الشمولية شرعنت نظام الحزب الواحد، واحيانا الحزب القائد، ليس فقط من الناحية العملية، بل ومن خلال قواعد دستورية ملزمة. ليس هذا فحسب، بل ان تلك الدول جعلت مقررات الهيئات العليا في الحزب مرجعية اولى، تسمو على دستور الدولة النافذ.
ان من المسلمات النظرية في مجال القانون الدستوري هي أن علاقة السلطة التنفيذية (الحكومة) مع الاحزاب السياسية يحددها شكل الحكم المعتمد في الدولة. ففي الدول التي اتخذت مَن البرلمانية شكلاً للحكم (شكل نظام الحكم في الادبيات القانونية العربية) يكون مصير الحكومة مرتبط بالأحزاب السياسية، ذلك ان جهاز الدولة التنفيذي يعتمد، بالدرجة الاساسية، على الحزب، او الاحزاب، التي تمتلك اغلبية المقاعد في برلمان الدولة، تلك الاغلبية التي توفر للحكومة الاساس الدستوري اللازم وتسهل، في ذات الوقت تمرير التشريعات المطلوبة. على انه لابد من الاشارة الى ان من مميزات احزاب الاكثرية أنها تفرض رقابة صارمة بالعلاقة مع الكتلة الحزبية التي تمثلها في برلمان الدولة، مستخدمة كافة الوسائل المتاحة لتعزيز الانضباط الحزبي لدى اعضائها.
في ذات الوقت فان شكل الحكم هذا يوفر الظروف لتسهيل تشكيل الحكومة فقط من قيادات الحزب الفائز في الانتخابات، على انه لابد من الاشارة هنا الى ان الحديث يجري حول حكومات الحزب الواحد. في هذه الحالة فان الحكومة تتشكل، في أغلب الاحيان، من قيادة الحزب الفائز في الانتخابات.
اما في الدول ذات الاشكال الرئاسية وشبه الرئاسية (المزدوجة) فان الحكومات، التي تشكل من خلال الاتفاقات السياسية، والتي يطلق عليها الحكومات الائتلافية، فأنها تفتقر الى امكانية اخضاع الاحزاب، التي تتمتع بالأغلبية البرلمانية لأوامرها وتوجيهاتها، بنفس القدر الذي تتميز به حكومات الحزب الواحد. ازاء ذلك تكون حكومة الاغلبية مضطرة للبحث عن اساليب المساومة، وهو الامر الذي لابد وأن يضعف الرقابة الحكومية، ولا يمكن تفسير ذلك، بأي حال، على انه نوع من الليبرالية، انما تشير هذه الحالة الى احد مظاهر ضعف الحكومة، التي عادة ما تتعرض لإملاءات الاحزاب المؤتلفة، وحتى ابتزازها في احيان كثيرة *. وهنا لابد من الاشارة الى ان العلاقة بين الحكومة والاحزاب السياسية تتخذ طابعا آخر، مغاير لما هو سائد في حكومات الحزب الواحد، مارة الذكر، ذلك أن السلطة التنفيذية في حكومة التوافق (الائتلافية) ليست خاضعة لإرادة الاغلبية البرلمانية. مقابل ذلك فان خطر حل البرلمان غير وارد في شكل الحكم الرئاسي، الامر الذي يعني تعزيز سلطة البرلمان تجاه الحكومة.
وما زال الحديث يدور عن شكل الحكم الرئاسي نجد مناسبا الاشارة الى أنه ليس للحكومة في شكل الحكم هذا مصلحة في الرقابة على الكتل السياسية داخل البرلمان، غير أن ذلك لا يعني الغياب الكامل لمثل هكذا رقابة. ففي الجمهوريات الرئاسية يستبدل نظام الادارة البيروقراطية الصارمة للأحزاب بما يمكن أن نطلق عليه بالأساليب الناعمة وسياسة الرعاية والاقناع والعلاقات الشخصية والتنازلات المتبادلة ….وغيرها.
وتجدر الاشارة أيضا الى أن الحكومة في الجمهوريات الرئاسية تمارس الرقابة على البرلمان ليس من خلال الكتل الحزبية، بل بشكل مباشر، علما بأن هذه الرقابة تستمر حتى عندما تكون الحكومة والاغلبية البرلمانية ينتميان الى احزاب مختلفة.
وفي جميع الاحوال، وبغض النظر عن شكل الحكم السائد، تعتبر الحكومة جهاز الدولة التنفيذي الأرأس، الذي عادة ما تناط به مهمة ادارة المجتمع، بما في ذلك الرقابة على نشاط الاحزاب السياسية، بمساعدة التشريعات التي تنظم عمل تلك الاحزاب وترسم حدود وحجم مسؤولياتها وتركيبتها الداخلية ووثائقها الداخلية (النظام الداخلي على وجه الخصوص) وعلاقاتها الخارجية ومصادر تمويلها.
———————————
*- ويمكن مصادفة هذه الحالة في الدول البرلمانية، التي تمر بأوضاع سياسية غير طبيعية، ربما جراء انتهاج اسلوب المحاصصة الاثنية في تشكيل الحكومة.