تعد المبالغ التي ينفقها الحجيج في موسمي الحج والعمرة وما بينهما من أيام أخر، واحدة من أهم مصادر تمويل مشاريع تطوير مدينة مكة وضواحيها في المملكة العربية السعودية. وعلى ذات المنوال تحصل المدينة المنورة توأم مكة على مصادر الأموال في ذات المواسم. وفي البعض من الوثائق هناك ما يشير إلى إيرادات حققتها السعودية بلغت 62 مليار ريال سعودي أي ما مقداره 16,5 مليار دولار في عام واحد. وكان عديد الحجاج ذلك العام، من الوافدين وأهل البلد، قد بلغ ما مجموعه 12 مليون حاج على مدار العام. وأشارت المصادر عند تأشير متوسط الإنفاق للحاج الواحد، ما قيمته بين 1900 دولار إلى 4000 دولار. وقالت تقارير السلطات السعودية بأن ما معدله 4,1 مليون حاج يؤدون فريضة الحج سنويا، من ضمنهم 1,7 مليون يأتون من خارج المملكة. هذه إحصائيات قديمة لواردات الحج والعمرة ولعدد الوافدين على المدينتين خلال عام واحد. ومع تصاعد عدد الحجيج ترتفع إيرادات المدينتين لتوضع في خزائن المملكة العربية السعودية، ويصرف جلها على خدمات تقدم للمدينتين للتطوير والتحديث العمراني.
تبدو مدينة مكة عبر نافذة الطائرة متوهجة بالأنوار، وثمة نسق جميل لشوارع عريضة، تلتف داخلها بتنسيق عال ومبهر، وكذلك في محيطها. وروعي على مدى أعوام ومواسم طويلة، على توسعة الحرم المكي وبناء مرافق جديدة تستوعب العدد المليوني المتصاعد للحجاج.
الخروج للتجوال في المدينة يجبر الزائر على ملاحظة التنوع والتحديث في الأماكن القديمة، خاصة الأسواق الشعبية فيها، والتي تجاورها البنايات الشاهقة للأسواق الحديثة والفنادق والجوامع بواجهاتها الجميلة. حتى البيوت وأماكن العبادة القديمة امتدت لها يد العمران، لتبقيها على طبيعتها الأولى وبملامح تجديد جميلة، لتكون أماكن تزار للتبرك والفرجة. ورغم زخم الأعداد المليونية من الحجاج، فهناك انسيابية جد طبيعية ونظافة تامة، تتمتع بها أزقة وشوارع المدينة، وما يحيط بالحرم المكي، لكي تظهر قدسية المدينة في تجليات عمرانها ونظافتها. وعلى ذات الصورة المريحة تتمتع المدينة المنورة بالجمال ذاته، بما أغدق عليها لأجل تطويرها كمعلم ديني وفي ذات الوقت سياحي، ومصدر يدر الأموال الطائلة على إدارة المدنية، ويقدم آلاف فرص العمل لأبناء المدينتين وباقي مدن المملكة السعودية.
في العراق هناك العديد من المقامات والأضرحة الدينية التي يقارب وضعها وضع مدينتي مكة والمدينة المنورة في القدسية الدينية والمكانة السياحية. ولكن ولحد الآن لم يطرأ على معالمها العمرانية أو الاقتصادية ذاك التغيير الذي يعتد به، وبقيت المشاريع تزحف في التنفيذ مثل سلحفاة، واعتمد أغلبها على ثلم الأرض بالقرب من الأضرحة وبناء الفنادق والأسواق. وحتى في هذا الشأن فقد شاب العمل الكثير من التلكؤ وسوء الإدارة والاتهامات بالفشل والسمسرة، وكذلك طال التشويه الطابع العمراني للمدن المقدسة ولم يراعِ الجانب الحضاري والسياحي فيها.
يقال والعهدة على بعض مؤسسات الدولة والمؤسسة الدينية، بأن أيام شهر محرم ومن بينها عشرة عاشوراء، ثم أربعينية الأمام الحسين بن علي، ووفاة النبي محمد والأمام علي والسيدة فاطمة الزهراء والأمام موسى الكاظم والعسكريين ومثلها أيام تولدهم، تدخل تلك المدن حينها حالة الطوارئ، بسبب زيارة الأعداد المليونية. وبالذات منها أيام عشرة محرم وأربعينية الأمام الحسين، حيث يؤم مدينة كربلاء المقدسة ما يقارب الستة ملايين زائر من جميع أنحاء العراق وخارجه، حسب ما يصدر عن لجنة المراقبة في المحافظة ذاتها.
وبسبب زخم تلك الأعداد تشوب طقوس وأعمال الزيارة عشوائية وتضاربات بسبب خضوعها لمزاجية مفرطة لأفراد وجهات دينية وحزبية، وكذلك جهات حكومية محلية. وتبدو حينها جميع مداخل المدينة مفتوحة لقدوم أرتال المشاة، وليس هناك غير المراقبة والخوف من التهديد الإرهابي.
بعد الانتفاضة الآذارية ضد سلطة البعث، وبسبب ما أبدته البيوت والأزقة الواقعة بين ضريحي الإمامين الحسين والعباس، من مقاومة شديدة للهجوم الذي قاده حسين كامل صهر الرئيس صدام، ضد ثوار المدينة، أصدر الدكتاتور أوامره بإزالة الدور والأزقة بين الحضرتين الحسينية والعباسية، وشيد بدلها ساحة بفضاء واسع جميل، ووضعت مسقفات تحمي الناس أثناء الزيارات من المطر والحر، وزرع على جانبيها النخيل، فكانت رب لفته كريهة عند البعض، نافعة للمدينة وطابعها الجمالي وزوارها. ولم يجد صدام في حينها من يعترض على فعلته، بسبب سطوته وقسوته، ففعل حينها ما يتوافق وذلك الصمت، وقدم تعويضات غير مجزية لمالكي الدور. والغريب في الأمر ما طرأ على وضع الساحة بين الضريحين بعد سقوط البعث، حيث وضعت على جوانب الساحة مجموعة من الكرفانات بدواعي تقديم الخدمات، مما شوه منظرها وثلم الكثير من مساحتها وجمالها، وباتت هذه الكرفانات تشكل عائقا لمسيرات الحشود المليونية. ومثل هذا الأمر يشي بعشوائية التعامل من قبل السلطات المحلية والمشرفين على خدمة الضريحين، مع طبيعة الزيارة والإهمال الفاضح لجمالية المكان وقدسيته.
جميع الموارد المالية التي تدرها الزيارات الدينية على إدارة المدن والأماكن المقدسة ومن ضمنها واردات المؤسسة الدينية المشرفة على المقامات، لا تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة المالية للدولة، وتختفي الأطر القانونية المحاسبية التي من مهامها ضبط دخول تلك الأموال وجبايتها، فليس هناك ضوابط قانونية محاسبية تمنع إهدارها بعيدا عن متطلبات المقامات الدينية، ومن ثم لا يتم استغلالها لصالح تطوير بنية وهياكل المنشآت والأحياء في باقي المدينة، وهناك إصرار على الفصل بين الإيرادات التي تحصل عليها المؤسسة الدينية، وبين ما تحصل عليه خزينة المحافظة، والتي دائما ما أشتكى مسؤولو الأخيرة من العجز في الميزانية الممنوحة لهم من قبل الحكومة الاتحادية.
مثل هذه الأمور تحدث لمدينة النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء و مرقدي الإمام عبد القادر الكيلاني والإمام الأعظم وباقي المقامات الدينية والأضرحة، حيث يعدم وجود لجان خاصة لوضع أسس منهجية وضوابط قانونية للانتفاع من الموارد المالية الضخمة التي تدرها تلك الأضرحة. ولم يعن للمؤسستين الدينية والحكومية استغلال الواردات لتحقيق توظيف للأموال، عبر مشاريع تجارية تدر أرباحا يمكن استغلالها لإعمار وتطوير البنى التحتية لهذه المدن. وإنما العكس يتم صرف مبالغ هائلة من خزينة الدولة لسد العجز أو ما يدعى بالخسارة جراء الاحتفاء بتلك المناسبات.
الزائر لمدينتي كربلاء والنجف ومثلهما الكاظمية وسامراء والأعظمية يقف حائرا أمام الفوضى العارمة التي تكتنف أحياء جميع هذه المدن. فالمشهد الأول الذي يجلب النظر ويدفع للتأسي هو تلك الخيوط العنكبوتية التي تتسلق الجدران وتتشابك فوق أسطح البنايات والشوارع. أسلاك تمتد على طول وعرض المدينة لا تعرف لمن عائديتها، هل هي أسلاك هاتف أم كهرباء.كذلك يعجب المرء ويصاب بالفزع لكثرة البيوت الآيلة للسقوط. ولا يوجد أي معلم في هذه المدن دون أن يشوه ويخرب بالملصقات الدالة على شخص أو عشيرة أو موكب. وهناك فوضى عارمة لا تخضع لتراتيبية وضوابط لآلاف قطع الدلالة لمحل عطارية أو طبيب، أو محامٍ أو صائغ أو محل حلويات ومطعم ومصلح أدوات وقراء وقارئات الطالع ومصلحي مكائن ومعدات ثقيلة. أما ظاهرة البسطات فعشوائية انتشارها تمثل أقبح منظر يجتاح المدن طولا وعرضا، بغرائبية وبعثرة وتنوع منفر. ويحدث مثل هذا الخراب والتخريب بأبشع صوره أيام المناسبات الدينية، التي تستباح فيها المدن وشوارعها من قبل الجميع، دون تنسيق وعناية، لتكون مصدرا للتلوث والنفايات، وسببا لاستنزاف جهود وأموال دوائر البلديات، حيث تصرف الحكومات المحلية دون المؤسسة الدينية، أموالا طائلة لدعم تلك المواكب والبسطات، وتستنفر كوادرها وموظفيها للمشاركة في إنجاح المناسبة والشعائر الدينية. وتنتفع المواكب الدينية من هبات الحكومة وتترك لبلدية المدينة آلاف الأطنان من النفايات. ولا يقتصر الإهمال والخراب فقط على تلك الجوانب بقدر ما تجد صعوبة التنقل بين أحياء المدن، فهناك تجد ما يفزع ويجرح الروح والعين من خرائب وأزقة موحلة ودروب تبعث على التأسي والفزع وروائح تبعث على الغثيان. ومثل هذه المناظر القبيحة تشي وكأن هناك إصرار على بقاء تلك المدن بهذه الصورة المقرفة كدالة على مظلوميتها، وتلك لعمري واحدة من حجج صراع السياسات العبثية التي ابتلى بها العديد من مدن العراق.
ودائما ما يقدم البعض نشيد الإنشاد الدائم والعالي النبرة، بأن مدن العراق الدينية تضاهي بقدسيتها الحواضر الدينية في باقي دول العالم، مثل الفاتيكان ومكة المكرمة والمدينة المنورة ومدينة مشهد الإيرانية. ولكن فيما يخص البنى التحتية والمنشآت والنظافة، فمدننا الدينية رغم غناها، تتفوق في بؤسها وخرابها وقذارة أحيائها وعشوائية حياتها وأحيائها، على جميع ما تتمتع به تلك الحواضر من نعم، وهبها وهيأ لها وشيدها حكامها ورجال دينها وأناسها من العقلاء الأسوياء الحكماء، وقبل هذا وذاك الأصحاء النظيفين عقلا وضميرا وجسدا.