اليسار – لغة واصطلاحا - مفهوم تاريخي ارتبط بصعود الطبقة البرجوازية ( الطبقة الثالثة في البرلمان الفرنسي ) وطموحها في الانقضاض على ما تبقى من العلاقات الاقطاعية في أوروبا التي رسمت الثورة الفرنسية النهاية المحتومة لها . و يتضح ان اليسار منذ بداية انطلاقته منحاز الى الطبقات والشرائح التي تتعرض الى الاستبداد والظلم والتمييز بكافة اشكاله . وان جميع التحولات التي تعرض لها هذا المفهوم مرتبطة بالتحولات والتغيرات السياسية والطبقية والاجتماعية . 

بعد عولمة نمط الإنتاج الراسمالي الذي أدى الى عولمة الفقر والتمايزات الاجتماعية الحادة ، لم تعد الطبقة العاملة وحدها المعنية بالكفاح ضد النتائج الكارثية التي تسببها الراسمالية . لذلك غطى مفهوم اليسار طيفا واسعا من الآراء والتعريفات لتوصيف التيارات المختلفة التي انضوت تحت خيمة اليسار كالتيارات الماركسية والاشتراكية الديمقراطية والحركات الاجتماعية والحركات الراديكالية و قسم كبير من منظمات المجتمع المدني .

في ظل هذه الفرشة الواسعة من الطبقات والشرائح الاجتماعية والاراء والتيارات السياسية لاطراف اليسار ، واجهت الباحثين صعوبات جمة سواء في تحديد مفهوم واضح لليسار ام في رسم نظرية سياسية تساعده على توحيد أهدافه واشكال كفاحه . لذلك أجد ان من ابرز سمات اليسار المعاصر هو تشتت وتشظي أساليب نضاله وتقاطعات وتناقضات كبيرة في مواقفه تجاه مختلف الظواهر التي تحدث في عالم اليوم . ولغرض الخروج من هذا الاستعصاء الذي استغرق عقودا من الضياع والخسارات والفقدان لا بد من حسم امرين أساسيين : الأول هو الوصول الى مفهوم واضح ومحدد لليسار . والامر الثاني هو الخروج بنظرية سياسية لليسار بكافة اجنحته في كل العالم بغض النظر عن الخصائص الوطنية والمحلية التي تحيط بكل حركة يسار على حدة . وأود ان ابين ان هذه المحاولة هي جهد وتوجه شخصي يخضع للحوار والتطوير والمعارضة أيضا ، لان كثيرا من الباحثين يرون استحالة الوصول الى مفهوم محدد لليسار او الخروج بنظرية في الممارسة السياسية تجمع اجنحته المتنوعة .

                                    مفهوم واضح ومحدد لليسار

ان الوصول الى هذا المفهوم يساعدنا على تحديد الأحزاب والتيارات والشخصيات اليسارية وتحديد الحلفاء والخصوم . كما انه يساعد على تحديد الأهداف ورسم نظرية سياسية على ضوء ذلك . لكن الاشكالية التي تواجهنا هي أي معيار معين نعتمده في تحديد مفهوم اليسار؟ فهل نعتمد الماركسية أساسا لتمييز اليساري من غيره ؟ هل نعتمد الانتماء الطبقي معيارا لذلك ؟ هل نعتمد المطالب المتعلقة بالحريات العامة وحقوق الانسان والطفولة والنسوية الخ أساسا لتمييز اليساري من غيره ؟ هل نعتمد الموقف العام من الامبريالية أساسا لذلك التمييز ؟ هل الأساس في هذا التمييز فكري او سياسي او طبقي اجتماعي ؟ ولغرض إزالة أي لبس،  اجدني مضطرا للدخول ببعض التفاصيل الضرورية للوصول الى ما هو جوهري في التمييز بين اليساري وغير اليساري .

ان الماركسية " مذهب كلي الجبروت يعطي الناس مفهوما عن العالم ، ولا يتفق مع أي ضرب من الأوهام" كما يقول لينين ومن الضروري اعتمادها من قبل اليسار كاداة لتحليل الظواهر في عالم يسوده التضليل والاضطراب والتشويش . لكن في الوقت نفسه ، لا يمكن ان نعتبرها المعيار الوحيد لتمييز اليساري من غيره ، لان طبيعة الصراع التناحري الراهن تجاوز صراع الطبقة العاملة مع البرجوازية واتسع ليصبح صراع الطبقة البرجوازية مع جميع الطبقات والشرائح والشعوب المتضررة من الراسمالية ، وهذا يعني ان عناصر مجتمعية جديدة دخلت حلبة اليسار من خارج الاطار الماركسي ، كما ان التجربة التاريخية المعاصرة تثبت انه ليس كل من تبنى الماركسية نظريا وقولا وشكلا يصبح يساريا ، لان تبني الفكر الماركسي شيء وممارسته في النضال اليومي شيء آخر ،  فهل اليساري الماركسي يتقاطع مع حقوق الانسان كما حصل في التجربة الستالينية او قيادات من بلدان الأطراف التي تدعي تبني الفكر الماركسي وهي تمارس القمع والاستبداد ، وتيارات وشخصيات تتبنى الماركسية ولكنها في الممارسة تتخذ مواقف شوفينية او طائفية .

ولا يمكن اعتبار الانتماء الطبقي معيارا لليساري من غيره ، لانه لا يوجد تطابق خطي بين الوعي والطبقة الاجتماعية . فالطبقة العاملة البريطانية كما يقول هوبزباوم اكثر رجعية في مواقفها من كثير من شرائح اجتماعية بريطانية أخرى ، وان الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية استمدت قوتها من مساندة الفقراء في البلدين ، ومعظم حركات الإسلام السياسي تجد الدعم والتاييد من فقراء المسلمين والطبقات المسحوقة . لذلك بلور غرامشي نظرية جديدة في الممارسة تهدف الى تخليص الجماهير من الجمود والاخيلة البدائية وتحويل الوعي الساذج الى وعي نقدي "

لايمكن اعتبار المطالب المتعلقة بالحريات العامة وحقوق الانسان والطفولة والنسوية وتقليل البطالة والفقر الخ أساسا لتمييز اليساري من غيره ، لان الأوراق هنا تختلط ويضيع الحابل بالنابل ، فكثير من الدول الراسمالية تتبنى اضطرارا قسما كبيرا من هذه المطالب وكذلك قسم من الدكتاتوريات إضافة الى الحركات الفاشية وبعض القوى القومية الشوفينية وحركات الإسلام السياسي . فالفكر الراسمالي والشوفيني والديني يتقاطع من حيث الجوهر مع مبادئ الديمقراطية والمساواة الحقيقية .

هل نعتمد الموقف العام من الامبريالية أساسا للتمييز بين اليساري و نقيضه ؟ هنا نحتاج الى وقفة وتحليل عميق لهذا التساؤل ، اذ يواجهنا تضليل وتعمية فكرية تم تمريرها على الكثير من الأحزاب وحركات التحرر في بلدان الأطراف والغريب انها مرت على أحزاب شيوعية وقعت في مطب الجمود والدوغما . وخلاصة الفكرة ان هذه الحركات تدعم أي جهة تعلن عداءها السافر للولايات المتحدة الامريكية دون تحليل لمحتوى برامج تلك الحركات ، فكانوا يدعمون صدام حسين والقذافي وقسم يدعم حتى تنظيمات دينية متطرفة ترفع شعارات معاداة أمريكا . فهل من اليسار ان تدعم دكتاتورا يضطهد أبناء شعبه لمجرد انه يزعق بمعاداة أمريكا . وهل من اليسار ان تدعم حركات تمزق النسيج الاجتماعي للمجتمع البشري وتعمق التشظية بين الشعوب على أسس طائفية او شوفينية ، لمجرد انها تدعي معاداة أمريكا . ان معاداة الامبريالية من قبل اليسار يعكس طبيعة الصراع التناحري الرئيسي بين الطرفين الراسمالية وحلفائها من جهة والطبقة العاملة وحلفائها من جهة أخرى . اما معاداة الامبريالية من حركات دينية وشوفينية وحكومات دكتاتورية فامر يدخل في حقول أخرى ابرزها التضليل والتعمية لتزييف الوعي .

في منعطفات ولحظات تاريخية يسودها التشوش وانعدام الرؤية يلعب التحليل النظري المعمق دورا حاسما في رسم الاتجاهات الصحيحة لتلك المنعطفات ، وما فعله لينين في تحليله لظاهرة الامبريالية الا تتويج لجهود كبيره بذلها قبله عدد كبير من الباحثين والمحللين والكتاب الذين درسوا بزوغ الامبريالية من راسمالية المنافسة الحرة . وما احوجنا في هذه المرحلة الى تحليل معمق لظاهرة اليسار في حقليها النظري والتطبيقي ، وهذا يتطلب جهودا جماعية تبذلها حركات اليسار في بلدان المركز والأطراف .

الراسمالية ، كما حددها ماركس ، تشكيلة اقتصادية اجتماعية تستند الى قانونها الأساسي    " فائض القيمة " وان تناقضها التناحري الأساسي بين الطبيعة الاجتماعية للعمل من جهة وبين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج من جهة أخرى هوجذر استغلال الانسان للإنسان وفي نفس الوقت هو الذي يرسم نهاية الراسمالية المحتومة عبر حل هذا التناقض لصالح الطبقة العاملة وحلفائها.

يبدو واضحا ان مهمة اليسار الارأس في عالمنا المعاصر هي حل هذا التناقض عبر الغاء جذر الاستغلال وهو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، وطرح ( رالف مليبلاند ) رؤيته لحل هذا التناقض عبر مبادئ واسس تشكل نظريته في الممارسة السياسية وهي : ان الراسمالية عقبة هائلة تحول دون تخطي الكوارث التي انتجتها هي في سياق تطورها وان هناك بديلا اشتراكيا للراسمالية يمكنه حل تلك الكوارث . وان مفهوم الديمقراطية التي تسعى اليها الاشتراكية ينفي مفهوم الديمقراطية البرجوازية كاحدى أدوات الهيمنة على المجتمع ، فالاشتراكية تعني التنظيم الديمقراطي للمجتمع ، فلا اشتراكية بدون ديمقراطية ، وان الاشتراكية تعني الخلاص وتجديد العالم وخلق الانسان الجديد . وان الاشتراكية تستهدف تحقيق المساواتية عبر نشوء مجتمعات تختفي فيها الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وتعني أيضا تشريك الاقتصاد عن طريق اخضاع الجزء الأعظم من وسائل النشاط الاقتصادي فيه للرقابة والإدارة الاجتماعية العامة.

وانطلاقا مما تقدم فان المعيار الذي يمكن اعتماده لتمييز مفهوم اليسار من غيره في أي بقعة من العالم ، انه تيار يستهدف تجاوز الراسمالية عبر الاشتراكية التي تعني تشريك الاقتصاد والتنظيم الديمقراطي للمجتمع والمساواتية وإعطاء الرقابة والإدارة الاجتماعية العامة الدور الحاسم في قيادة المجتمع . قد يختلف معنا الكثيرون في حصر مفهوم اليسار بمفهوم الاشتراكية . ان هذا الربط الجدلي بين اليسار والاشتراكية ليس شكليا يستهدف الخروج بنظرية سياسية لليسار و إزالة الفوضى الدائرة حول هذا المفهوم وحسب وانما هو تعبير عن حاجة موضوعية تفرضها طبيعة الصراع التناحري الذي يعصف بالمجتمع الراسمالي المعاصر سواء في المركز الراسمالي ام في اطرافه .  

                             نحو نظرية ممارسة لليسار

بذل مفكرو الاشتراكية جهودا مضنية على طريق نقل النظرية والبرامج للتطبيق والممارسة السياسية اليومية . فنظرية ماركس وانجلز اعتمدت " حرب الحركة " قبل كومونة باريس للانقضاض على الراسمالية ، بينما اعتمدت " حرب المواقع " بعد الكومونة . وبعد تطوير لينين الخلاق للماركسية في عصرالامبريالية اعتمد " حرب الحركة " لتجاوز الراسمالية في اضعف حلقاتها ونجح في تأسيس اول دولة للعمال . ونتيجة لانتكاسة الحركة العمالية في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الأولى ، لجأ غرامشي ورواد مدرسة فرانكفورت الى " حرب المواقع" في مقارعة الراسمالية.

انتج غرامشي ومدرسة فرانكفورت ومجموعة أخرى من المفكرين في بلدان المركز والأطراف منظومات مفاهيمية تساعد الحركة الثورية في العالم على ادراك ظاهرة التخلف والتبعية التي قسمت عالمنا الى نصفين ، وحللت بعمق ظاهرة الهيمنة اللتي تؤدي الى استلاب الانسان في مجتمع التقنية وتتحول منجزات العلوم والتكنلوجيا الى أدوات هيمنة مضافة وفعالة ، من خلال أجهزة التضليل الأيديولوجي الضخمة ، لتزييف الوعي وصنع المجتمع والانسان ذي البعد الواحد الذي يعتبر الراسمالية مجتمعا أمثل لا بديل له . لذلك طرح غرامشي  هيمنة بديلة لهيمنة الراسمال، هيمنة تبدا من تحت ، تمهد لانهيار النظام الراسمالي ، تتولاها الطبقة العاملة وحلفاؤها المتضررون من النظام الراسمالي ويشكلون كتلة بشرية هائلة تقودها وترسم ستراتيجيتها وتكتيكاتها احزاب ثورية اطلق عليه غرامشي " الامير الجديد " ، و يلعب المثقفون العضويون فيها الدور الفاعل ، لخلق وعي نقدي يستند الى المنهج الماركسي في تحليل الظواهر .

      ان نظرية ممارسة اليسار المعروضة للحوار الواسع تعتمد ما يأتي :

  • الراسمالية تستند الى ملكية وسائل الإنتاج الخاصة وهي جذر استغلال الانسان للإنسان ، و اليسار الحقيقي هو مفهوم يشكل نفيا لمفهوم الراسمالية لانه يسعى الى الغاء الاستغلال عبر تشريك الاقتصاد وعولمة الديمقراطية وتحقيق المساواة و جعل الرقابة الجماهيرية عاملا حاسما في إدارة المجتمع .
  • حصر اليسار بحدود هذا المفهوم ، لا يمنع من عقد تحالفات عديدة وواسعة مع قوى تشترك معه في التخفيف من كوارث الراسمالية التي تخلقها باستمرار .
  • تخليص اليسار من نخبويته وتحويله الى تيار جماهيري ، وبدون تحقيق هذا الهدف ، لن تنفع معه افضل البرامج ، لانها ستبقى حبرا على ورق ، و ونجحت بعض فصائل اليسار في أمريكا اللاتينية ، وفي أوروبا واسيا في تحقيق هذا الهدف ، وعلى قوى اليسار الأخرى ان تضع هذه المهمة في أولوياتها .
  • أصبحت مؤسسات البناء الفوقي للنظام البرجوازي عاملا كابحا للتقدم ، لذلك يمكن اعتماد فكرة الكتلة التاريخية لغرامشي و اختراق الجهاز الأيديولوجي البرجوازي لسانتياغو كاريللو و التحالف الشعبي الواسع لسمير امين و تعزيز حركة التحرر الوطني المعادية للكولونيالية لمهدي عامل ، أساسا لخطط وتحرك مدروس وملموس لاجنحة اليسار المنتشرة في ارجاء الكرة الأرضية .
  • ان اختراق الجهاز الأيديولوجي البرجوازي هو مهمة خاصة بالمثقفين العضويين المبدعين المنضوين تحت خيمة اليسار . ولليسار تجربة غنية جدا في هذا المجال ولكنها تبقى فردية الطابع لم تتمخض عن رؤية يسارية موحدة للممارسة ، فكم من الادباء والفنانين والعلماء اليساريين تركوا اثرا كبيرا في أجيال كاملة مثل اينشتين وتشارلي شابلن و روائيين وشعراء ومخرجين . فعلى حركات اليسار ان تخرج برؤية موحدة لتفعيل دور مثقفي اليسار في اختراق الجهاز الأيديولوجي البرجوازي .
  • ولكي يحقق اليسار هدف البشرية في الانتقال من مجتمع الضرورة الى مجتمع الحرية الفسيح ، لا بد له ان يعتمد فكرة الضغط الجماهيري المتواصل ، وبهذا المنظور تكون " نهاية التاريخ " و "نهاية الحروب المدمرة " و " نهاية الاستغلال " و" نهاية التمايزات الاجتماعية والعنصرية " مرتبطة بدور اليسار في رسم معالم مستقبل البشرية .
عرض مقالات: