الرئيس المحترم

   من المعروف أن أخلاقية الدبلوماسية لا تسمح باستخدام الفاظ نابية في العمل الدبلوماسي وبين رؤساء الدول ومسؤولي البلدان وحتى بين المواطنين والناس البسطاء. ولذلك قيل " هي الأخلاق تنبت كالنبات اذا سقيت بماء المكرمات ". والمكرمة : من الكريم ، والأرض المكرمة : كريمة طيبة للنبات. ومن الضروري ان يتمتع رئيس الدولة خاصة او الدبلوماسي  او اي مسؤول آخر، الى جانب صفات معينة، بمعرفة واسعة النطاق وذاكرة قوية، وان يكون متأنيا ولبقا، مهذبا ومتعلما، قادر على السيطرة على عواطفه. ان استخدام الألفاظ النابية يدل على ضعف الشخص وعدم قدرته على مواجهة الواقع وتحدي المقابل بالحقائق.

   لقد صرحت أيها الرئيس في مناسبات عدة واتهمت الرئيس بوتين وسميته مرة " بالقاتل " ومرة اخرى  " بالمجرم "، واخيرا في زيارتك قبل ايام لمعسكر اللاجئين الأوكرانيين في بولندا " بالقصاب "، الفاظ لا تليق ابدا برئيس دولة تسمي نفسها دولة عظمى. هذا اولا عدم احترام  لشخصك ولدولتك التي ترأسها ولشعبها ايضا، وثانيا اهانة لا تغتفر لرئيس وشعب  دولة عظمى مثل دولتك،  بل ويحتمل تفوق دولتك وتتمتع بمكانة خاصة ورفيعة ولها دور كبير في المجتمع الدولي وتحظى باحترام شعوبه .

   تتذكر عندما سميته " بالقاتل " فان بوتين لم يسرع بالرد عليك بالمقابل لأنه ليس من شيمته النزول الى مستويات واطئة من الأخلاقية. وحين سأل الصحفيون السكرتير الصحفي للرئيس بوتين دميتري بسكوف عن رأي الكرملين بما صرح به بايدن عندما سمى الرئيس بوتين  "بالقاتل ". قال بسكوف : " لم يتأثر بوتين وقال بكل بساطة انه رجل كبير السن ويتمنى له الصحة والعافية". رد معقول جدا وينم عن احترام الشخص لنفسه وللشعب الذي يرأسه.

   لنعد ولنتذكر من هو " القاتل " و " المجرم " و " القصاب " !

   أبدأ من هيروشيما ونكاساكي اليابانية حين قامت قاذفة القنابل الأمريكية B-29 في 6 آب/ أغسطس عام 1945 بقصف نووي لمدينة هيروشيما وبلغ عدد القتلى والمصابين بالأمراض السرطانية بعد ذلك 90-166 ألف شخص. وبعد ثلاثة ايام في 9 آب/ أغسطس عام 1945 قامت نفس القاذفة بقصف مماثل لمدينة نكاساكي اليابانية مما ادى الى قتل عدد كبير من اليابانيين بلغ 60-80 ألف شخص. عمل اجرامي امريكي لا ينساه التاريخ. أما فيتنام فلا نتطرق اليها فالعالم شاهد على ما اقترفتموه هناك من قتل ودمار.

   قصف يوغوسلافيا. من الذي خطط واصدر الأوامر لقصف يوغوسلافيا وتدمير عاصمتها بلغراد وقتل رئيسها ميلوشيفيتش وابادة شعبها والذي أدى الى مئات الآلاف من الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال وتخريب المدن والقرى فيها ؟ هل الرئيس بوتين قام بهذا العمل الاجرامي الشنيع أم حلف الناتو الذي ترأسه أمريكا ؟ حضرتك بالذات ايها الرئيس أكدت بنفسك حين قلت : " أنا الذي اقترحت وأنا الذي طلبت بقصف يوغوسلافيا ". لا بد وانكم تتذكرون ذلك !

   من الذي أشعل الحرب العراقية – الايرانية ؟ لا يختلف اثنان في تسمية مدبري هذه الحرب القذرة التي اشعلتها امريكا وحلفائها  في منطقة الشرق الأوسط والتي راح ضحيتها مئات الآلاف بل والمليون من القتلى والجرحى . ومن كان وراء الحرب العراقية – الكويتية التي ادت الى التدخل الأمريكي وحلفائها في العراق بحجة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وبالتالي لم يعثروا عليها وما نتج عن ذلك من تدمير كارثي لهذا البلد الغني بالنفط وتحويله الى أفقر بلدان العالم ؟. ليس بوتين من قام بذلك !

   احداث الربيع العربي التي اشعلتم فتيلها في العالم العربي في ليبيا وسوريا ولبنان وغيرها من البلدان شاهدة على تدمير هذه البلدان والضحايا التي نتجت عنها. بلدان كانت ترمي الى التطور والتقدم ولكن تحولت بسبب تدخلكم الاجرامي الى بلدان متخلفة تعيش في ظلمات القرون الوسطى.

   حولتم أفغانستان، خلال عشرين عاما من وجودكم فيها لنشر ديمقراطيتكم السيئة الصيت والتي اصبحتم لا تؤمنون بها بأنفسكم ، الى دولة متخلفة تماما والتي هربتم منها بالخزي والعار وخلفتم فيها من الدمار والضحايا ما لا يعد ولا يحصى.

   هربتم من أفغانستان واشعلتم نار الحرب مباشرة في أوكرانيا ، ويبدو انكم تعيشون على مآسي الآخرين وان سياستكم قائمة على خلق الأزمات وعدم الاستقرار في العالم. واوكرانيا هذا البلد المتطور اقتصاديا وصناعيا وثقافيا في العهد السوفيتي ، بدأ اليوم يفقد دولته ويحتمل انقسامه الى دويلات صغيرة ان لم تضع روسيا حدا لتدخل أمريكا والناتو السافر في هذا البلد ومحاولة احتوائه تماما.

   القضية الأوكرانية ليست وليدة اليوم وتعود احداثها الى عام 2014 حين وقع فيها الانقلاب الفاشي الدموي الذي نظمته وقادته الولايات المتحدة والناتو من خلال تحريك قوى اليمين الأوكراني المعارضة ومشاركة تنظيمات وكتائب " بانديرا " الفاشية امثال " أيدار " و "آزوف"  و " دومباس " و " القطاع اليميني " وغيرها. وعلى اثر ذلك تشكلت في اوكرانيا حكومة موالية لأمريكا وانتخاب بوروشينكو رئيسا لأوكرانيا الذي بدأ يدير البلاد بأوامر مباشرة من الأمريكيين والعمل على انضمام اوكرانيا الى حلف الناتو واتباع سياسة معادية لروسيا والغاء اللغة الروسية التي يتحدث بها اغلب الأوكرانيين بمن فيهم الرئيس نفسه، وكذلك الغاء الأحزاب المعارضة له. ان هذه السياسة المعادية لم ترض الروس ونبهوا مرارا الى عواقبها الوخيمة ومحاولات جعل أوكرانيا " رأس جسر وقاعدة " لضرب روسيا وتهديد امنها واستقرارها. لم يعط الرئيس الأوكراني بوروشينكو ومن بعده الرئيس زيلينسكي اذنا صاغية لقلق الروس من احتمال احتواء وعسكرة اوكرانيا من قبل الأمريكيين والناتو واقامة القواعد العسكرية فيها، وكذلك  من اقتراب  قوات الناتو من الحدود الروسية مما اعتبرته روسيا تهديدا لأمنها. ولغرض عدم تأجيج الوضع والعودة الى حل القضية الأوكرانية وفق "اتفاقيات مينسك" التي وقعتها أوكرانيا بنفسها طلبت روسيا من اوكرانيا سحب قواتها العسكرية البالغة اكثر من 120 ألف جندي عن الحدود الروسية وحدود "مقاطعة الدونباس"  (جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين والمعلنتين ذاتيا واللتين اعترفت روسيا بأستقلالهما في 21 شباط 2022 ووقعت معهما اتفاقيتين بشان الصداقة والتعاون المتبادل ) الى مسافة لا تشكل تهديدا لروسيا والجمهوريتين المذكورتين. لكن اوكرانيا عارضت ذلك. وفي مجرى العملية العسكرية الخاصة في اوكرانيا تمكنت وزارة الدفاع الروسية قبل ايام من الحصول على وثائق سرية نشرتها في الصحف والتلفزيون تشير الى نوايا أوكرانيا لشن حرب ضد جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك وشبه جزيرة القرم لاعادتها الى قوام أوكرانيا.

   وقد حذر الرئيس بوتين مرارا وفي مناسبات عديدة امريكا وحلف الناتو من خطر تحريك قواته باتجاه الشرق، الى رومانيا وبولندا وبلدان بحر البلطيق مثلا، والاقتراب من الحدود الروسية تماما في حالة احتواء الحلف لأوكرانيا مما اصبح يشكل تهديدا مباشرا لأمن روسيا. وقال بوتين بهذا الصدد : اذا كانت صواريخ الناتو سابقا تصل موسكو خلال 15-20 دقيقة فاليوم عند وجود الحلف قرب حدودنا " وفي عقر دارنا " يمكن ان تصل هذه الصواريخ خلال خمس دقائق فقط. واضاف : لم يبقوا لنا اية فرصة او امكانية للدفاع عن مصالحنا. قلنا لهم توقفوا ولا تقتربوا من حدودنا وبعكس ذلك سنضطر لاتخاذ تدابير مضادة، بما فيها العسكرية والفنية. لكنهم لم يستمعوا الى تحذيرنا ".

   وفي 24 شباط/ فبراير 2022 اعلن الرئيس بوتين في بيان له عن قراره لبدء "العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا" وذلك استجابة لطلب رئيسي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك بشان تقديم المساعدة لهما. وسبق ذلك تمركز ومرابطة القوات الروسية قرب الحدود الأوكرانية وتأزم العلاقات بين روسيا وأوكرانيا. واستهدفت العملية وضع حد لعسكرة اوكرانيا وجعلها دولة محايدة على غرار فنلندا والسويد والقضاء على النازية الأوكرانية الجديدة والاعتراف بجمهورية شبه جزيرة القرم وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين. ولا تزال المفاوضات جارية بين روسيا وأوكرانيا الى اليوم حول تحقيق هذه الأهداف. وبرأيي لن تؤدي هذه المفاوضات الى نتيجة ايجابية فالجانب الأوكراني يحاول كسب الوقت فقط.

   كشفت العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا عن وجود مختبرات امريكية فيها تعمل في مجال انتاج الأسلحة البيولوجية والجرثومية ونشر الأوبئة. ويدعم هذه المختبرات صندوق  "هانتر بايدن " ابن الرئيس الأمريكي جو بايدن ، وصندوق " سوروس " المعروف وشركات اخرى. وفي مجريات هذه العملية تمكنت وزارة الدفاع الروسية من الحصول على وثائق سرية ودراسات تكشف عن قيام هذه المختبرات بانتاج الأسلحة البيولوجية. وقد نشرت الوزارة الكثير من هذه الوثائق في الانترنيت والصحف الاعلامية. وسبق ان طلبت الصين من الولايات المتحدة الكشف عن هذه المختبرات في بلدان العالم والدراسات التي تقوم بها.

   هذه هي اهم خلفيات الأزمة الأوكرانية.

   اذن يبقى من هو "القاتل والمجرم والسفاح او القصاب" ؟ هل الرئيس بوتين ام  أمريكا التي ترأسونها؟

   روسيا ايها الرئيس دولة قوية مسالمة تود ان تقيم علاقات جيدة مع جميع البلدان مبنية على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤونها. ولروسيا دور كبير في الشأن العالمي وشعبهم ضحى في الحرب العالمية الثانية باكثر من 25 مليون شخص من اجل تحرير بلدهم والبلدان الغربية من ريقة النازية الألمانية. فالغرب مدين لهم الى حد هذا اليوم. وبدل تقديم الشكر والامتنان لتضحياتهم الجسيمة من اجل سعادة الآخرين  من الغريب ان نرى اليوم تصاعد حملة ظالمة لمعاداة الروس التي تقودها أمريكا وفرض العقوبات عليها ومحاولة احتوائها وضربها. هذه السياسة تؤدي الى طريق مسدود ويجب حل المشاكل الدولية ، وخاصة القضية الأوكرانية،  من خلال المفاوضات والحوار القائم على تكافؤ الحقوق والاحترام المتبادل كما أكدت الصين على ذلك.

   ان العقوبات التي تفرضونها على روسيا لا تؤدي الى حل بل ستضر بالغرب قبل كل شيء. وان الافراط في سياسة معاداة الروس وفرض العقوبات اصبحا اليوم من قبيل المضحكة. طيب آمنا بأنكم تعادون بوتين وحكومته وغيرهم من المسؤولين ولكن ما ذنب الناس البسطاء ، ما ذنب المثقفين والفنانين والأوساط الرياضية الروسية وغيرهم الذين يتعرضون من قبلكم الى اقسى اشكال القمع والمنع والقهر والتسميم والعداء السافر؟ شيء مضحك بالفعل.

                                                                     

                                                                  29 آذار 2022