من الطبيعي للغرب الاستعماري حالما يحتل دولة ما أن يحيك نظاماً سياسياً فيه من التناقضات والنزاعات ما يكفل ديمومة السلطة المحتلة، هذا لا يعني أن هذه التناقضات ليست موجودة في المجتمع، إنما يستغلها المحتل ويؤججها ويدخلها تركيبة النظام الذي يظل في حال تشظٍّ دائمة من الداخل، هذا ما فعلته فرنسا حين حكمت لبنان مع نهاية الحرب العالمية الاولى، وهذا ما يحرض على اتباعه العديد من السياسيين والباحثين الاميركيين في العراق، بالطبع لن يعترف المستعمرون أنهم يقضون على المجتمع المحتَل، بل يلجؤون إلى مصطلحات حديثة لها وقع جميل على النفوس، وتظهر كأنهم يعملون لخير البلد وبناء ديمقراطيته، إنما يشددون على أن هذه الديمقراطية ليست على شاكلة النمط الغربي للدولة القومية الوطنية، فوضعنا غير سويسرا وبلجيكا، ومجتمعنا غير مجتمعاتهم، وبالتالي ليس لنا إلا اتباع نظام خاص أسموه الديمقراطية التوافقية، وواقعها العملي هو صراع الأحزاب ومحاصصة المناصب بينها، وهي صيغة تضمن النفع المالي والمعنوي للأحزاب وشخصياتها.

تنطلق «الديمقراطية التوافقية» من فكرة بناء نظام سياسي يمثّل الأصول الاثنية والطائفية إلا أنه قطعاً لا يمثّل الشعب، اطلاق تسمية «ديمقراطية» هي تسمية زائفة، لأن كلمة ديمقراطية تعني سلطة الشعب وسلطة المواطنين لا سلطة النظام الاقطاعي أو الديني أو العشائري.
هذه «الديمقراطية التوافقية» تحصر السلطة بالخاصة لا العامة، وتؤسس للتفرقة بين أفراد المجتمع، فلا مساواة تُرتجى، ولا عدالة تُحقق، ولا حرية تُسبغ، ولا مواطنة حقة.
يقول نوري السعيد رئيس الوزراء في العهد الملكي إن الأحزاب حرمت الدولة العراقية من الكثير من الكفاءات، وهو ما جرى في العراق بعد عام (2003)، إذ تم الاستئثار بالسلطة من قبل الحزبيين ومن أتت بهم طوائفهم دون النظر إلى كفاءاتهم، إذ أصبح الانتماء إلى هذا الحزب أو تلك الطائفة هو هوية الوصول وبطاقة الفوز بالمنصب.

أوصلَ التوافق السياسي الدولة إلى الافلاس، وأوصلَ المجتمع الى تجريده من المنظومة القيمية والأخلاقية، واوصلَ المواطن الى شعور انفصام و انتقام من الدولة.

خسرَ الشعب ثروته وموارده، إمّا بالسرقة و إماّ بالتوزيع غير المنصف والعادل للثروة والميزانية. خسرَ الشعب ايضاً سيادته وسيادة دولته بفقدان مكانة وهيبة وسمعة ودور العراق، وخسرَ ارادته التي منحها للقياديين من أجل ممارسة السلطة باسمه ولمصلحته .

العراقيون بدأوا يحلمون باليوم الذي يجدون فيه وطنهم يحيا من جديد، ويؤسس من جديد على أسس وطنية حقيقية، وأن توزع الموارد بعدالة، وأن يلتئم الجميع تحت مظلة عراقية واحدة بعد عهود الضيم والأسى.

استبشر العراقيون خيراً بموقف السيد الصدر بتشكيل حكومة وطنية بعيدة عن التوافق، حيث أصر السيد الصدر على ذلك دون النظر بأي احتمال آخر، واعتبر أن تشكيل حكومة توافقية أشبه بالانتحار.

لكن برزت ترجيحات بشأن تحالف قد يُبرم سريعاً بين رئيس التيار الصدري مقتدى الصدر، ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي أو توافق على الأقل.

وهذا يعني أن العراق سوف يستمر على نفس النهج بتشكيل حكومة توافقية، وخيبة أمل كبيرة، بعد أن كان الأمل بلا حدود بمغادرة هذه التوافقية اللعينة التي خسرنا بها كل شيء، وأخيراً انتصر الفاسدون، واطمأنوا أن أبواب خزائن العراق سوف تفتح لهم من جديد بدلاً من  أبواب السجون كما وعد السيد الصدر، مبارك للفاسدين ولا عزاء للعراقيين.

عرض مقالات: