الأمير عبد القادر الجزائري غني عن التعريف، فهو رمز وطني ومجاهد عنيد عُرف بقيادة شعبه لمقاومة طلائع الاحتلال الفرنسي لوطنه الجزائر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ما عرّضه لانتقام سلطات الاحتلال الاستعمارية بنفيه إلى خارج البلاد، لكنها بدلاً من أن تنفيه- حسب الاتفاق معه- إلى الاسكندرية للإقامة في مصر، نكثت بالاتفاق وتوجهت السفينة التي تقله وعائلته إلى مدينة أمبواز الفرنسية. وقبل ما يزيد عن عام -وبطلب من الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون- أصدر المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا تقريراً حول ملف ذاكرة الحقبة الاستعمارية لبلاده في الجزائر وما سببته لشعبها من آلام وأضرار طوال 132 عاماً، ومع أن التقرير لم يفِ بشروط الحد الأدنى لتكفير فرنسا عن جرائمها في الجزائر، وفي مقدمتها رد الاعتبار لها بالتعويضات المالية المستحقة، إلا أنه تضمن بعض التوصيات الرمزية لصالح الجزائر، ومنها بناء تمثال للأمير عبد القادر في مدينة أمبواز التي اُعتقل فيها ومعظم أفراد عائلته. وقد قام بإنجاز هذا المشروع مؤخرا النحات الفرنسي تياري بوتار، إلا أنه قبل ساعات من حفل التدشين في أوائل الشهر الجاري أقدم مجهولون فجر يوم الحفل على تخريب الجزء السفلي من التمثال. ورغم أن هذا الفعل العنصري المشين تعرض لتنديد عدد من كبار مسؤولي الحكومة الفرنسية، وعلى رأسهم الرئيس ماكرون نفسه، إلا أن تلك الجريمة يصعب فصلها عن مناخ الكراهية وصعود الشعبوية السائد في البلاد تجاه العرب والمسلمين، ناهيك عن شيوع ثقافة نبذ الأعراف بجرائم الماضي الاستعماري داخل أوساط غير قليلة من المجتمع الفرنسي ، والتي أفرزت بدورها كراهية تخليد رمز وطني ينحدر من أرض كانت فرنسا تعتبرها جزءاً منها، ومن هنا تولدت نزعة مريضة برفض نصب تمثال له في قلب مدينة فرنسية لما يجيده هذا التمثال من دلالة إدانة ضمنية لماضي بلادهم الاستعماري ويقض مضاجعهم النفسية على مدار الساعة .
أكثر من ذلك فإن العديد من رموز الدولة نفسها -بدءاً من رئيس الجمهورية ماكرون- لم تكن بريئة تماماً مما حدث للتمثال وذلك لمسؤوليتها في تغذية ذلك المناخ العنصري الاستعماري المتعالي تجاه الجزائر الذي خلقه الشعبويون، ففي خريف العام الماضي شكك ماكرون نفسه بوجود الشعب الجزائري أو "الامة الجزائرية" عشية احتلال بلاده للجزائر عام 1930 ما أثار غضب الجزائريين على الصعيدين الشعبي والحكومي وسبب بأزمة سياسية بين البلدين. ومع أن باريس وكبادرة حسن نية منها تجاه الجزائر احتفت في اكتوبر الماضي بالذكرى الستينية لجريمة شرطتها عام 1961 المتمثلة في قمعها الوحشي لمسيرة سلمية لآلاف الجزائريين راح ضحيته ما لا يقل عن نحو 200 متظاهر جزائري اُلقيت جثث معظمهم في نهر السين بدم بارد، ومع أن فرنسا توعدت أيضاً بتعقب مخربي التمثال، وهو أمر مشكوك في جديتها ووصولها لمرتكبيه، فإن مثل هذه الأعمال مرشحة للتكرر في ظل غياب إرادة سياسية للقيام بدراسة موضوعية جادة لتاريخ فرنسا الحديث ،بخيره وشره، ومن ثم الأعراف الشجاع الصريح بما ارتكبته من جرائم بحق شعوب البلدان التي استعمرتها ومنها الجزائر ، وما ذلك إلا خوفاً مما يترتب عليه من تعويضات مالية وتشويه سمعتها الديمقراطية.