نشأ الفكر القومي في أوربا أستجابة لحاجات البرجوازية الأوربية الناهضة، التي كانت علاقات الأنتاج الأقطاعية المتهرئة، وسلطة الإقطاع المتخلفة، تشكلان عوائق أمام تطورها، وتوسيع الأسواق لاستيعاب فائض أنتاجها، حيث كانت الأمارات الأقطاعية تشكل حواجز حيقيقة، تحول دون حرية أنتقال البضائع والأيدي العاملة. وقام الفكر القومي على أسس مضادة للأنقاسامات المذهبية الدينية التي تباعد بين تلك الأمارات رغم وحدتها اللغوية والثقافية. وهدف الى أن يشكل أداة لصهر الأمارات الأقطاعية على أختلاف توجهاتها الدينية ـ المذهبية في أمم كبيرة، بما يؤدي الى وحدة السوق وحرية تنقل الأفراد، أي حرية انتقال اليد العاملة.

مشكلة الفكر القومي العربي أن بداياته لم تتوافق مع نهوض أو نشوء برجوازية محلية في الولايات العربية الملحقة بالدولة العثمانية، ولهذا نهضت بمهمة تشكيل هذا الفكر شريحتان مختلفتان تماما، الشريحة الأولى تكونت من مفكرين مسيحيين شوام، وجدوا في الأنتماء القومي الى سوريا الكبرى أو العروبة، وأستنهاض قومية سورية أو عربية مفترضة، عامل دعم لهم في مواجهة التمييز الديني الذي كان المسيحيون، وغيرهم من الأقليات الدينية يعانون منه في الأمبراطورية الإسلامية العثمانية. وقد نشط هؤلاء المفكرون في الترويج لفكرة القومية العربية في منطقة بلاد الشام التي تضم سوريا ولبنان الحاليين وفلسطين والأردن، ووجد نشاطهم صدى باهتا له في العراق. لكن أفتقاد الفكر الى حامل أجتماعي ذي مصلحة به، أي برجوازية ناشئة، حصره في منتديات نخبوية، لا صدى حقيقي لها في مجتمعات تقيّد الأمية فيها أفكار نحو 80% من السكان.

وتصادفت هذه الحيوية الفكرية مع نمو البرجوازية التركية في مركز الإمبراطورية العثمانية، وتطلعها الى لعب دور سياسي يتناسب مع دورها الأقتصادي وينميه، فكانت تركيا الفتية، التي ترجمت خطأ الى العربية بـ ((تركيا الفتاة)). ثم جمعية ((الاتحاد والترقي)). ولم يصطدم هذا التحرك البرجوازي بحكم السلاطين العثمانيين فقط بل أصطدم كذلك بالقوى الأجتماعية المتنفذة في أطراف الإمبراطورية، أي في الولايات العربية التابعة للباب العالي، والتي كانت تحت نفوذ الشرائح الأجتماعية التقليدية القديمة، مثل رؤساء العشائر المستفيدين من نظام ملكية الأراضي العثماني، الذي مكنهم من الأستلاء على ملايين الدونمات من المناطق الزراعية، مقابل ضمان ولائهم وولاء عشائرهم للباب العالي، ومثل السادة الشيعة مدعو الأنتماء الى السلالة العلوية، والسادة السنة مدعو الأنتماء الى الخلافاء الراشدين أو الخلفاء العباسيين، والذين كان الكثير منهم رؤساء عشائر أو أصحاب نفوذ عليها ومن أصحاب الملكيات الزراعية الكبيرة، بالإضافة إلى النفوذ الاجتماعي الذي توارثوه في المدن، وما يترتب عليه من حيازة للسلطة على المستوى المحلي، وعلى مستوى السلطنة في بعض الحالات.

نقطة الأصطدام بين تلك الشرائح وسلطة الاتحاد والترقي التي تسلمت الحكم بعد إزاحة السلطان عبدالحميد كانت سعي السلطة البرجوازية التركية الفتية، الى إعادة النظر في أنظمة الملكية الزراعية، واستبدال البيروقراطية الحاكمة المكونة من تلك الشرائح ببيروقراطية شابة تتوافق مع السعي الى تحديث أنماط الحياة والعلاقات الأجتماعية. وفي رصده لهذا الأصطدام كتب الباحث المرموق حنا بطاطو في كتابه الموسوعي عن العراق:

(( أسوأ ما حدث لـ " السادة " جاء مع انفجار ثورة " تركيا الفتاة " في العام 1908، وكان أكثر ما أقلقهم أن الثورة لم تكتف بتجذير الإتجاه نحو الحكم التركي المباشر، بل بدت أيضا منكبة على إلغاء الحصانات الضريبية، وأعادة تقسيم الأراضي بين الفلاحين، من دون أنتهاك حقوق أصحاب الأراضي، وإزاحة السادة من مناصبهم العليا. وكان الأمر الأكثر جدية من أي أمر آخر هو هدم المفاهيم الأجتماعية القديمة، وطرق التفكير القديمة، أي في الواقع هدم النسيج الإسلامي الذي دعم حتى الآن، موقعهم المميز وسيطرتهم الأجتماعية )).

هنا برزت فكرة (( القومية العربية )) التي كانت مهملة ومتوارية خلف الرابطة الدينية، برزت كـ (( خندق أخير )) للنظام القديم على حد تعبير بطاطو.

المقتبسات بين قويسات من كتاب حنا بطاطو ((العراق)) الجزء الأول المعنون بـ (( الطبقات الأجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية )) الصفحات 200 ،201 ، 202.

لكن الفكر القومي الذي عاد الى البروز في مواجهة ثورة الإتحاد والترقي، كان مختلفا على نحو جذري عن الفكر القومي الذي بشّر به المفكرون المسيحيون العرب، وكان فاقدا لصفته التقدمية، أرتباطا بالطبيعة الرجعية للفئات التي شكلت قوته المحركة وهي طبقة ((السادة)) وشيوخ العشائر الاقطاعيين. وإذا كان الفكر القومي للمفكرين المسيحيين العرب قد ظل حبيس البروج العاجية للنخب الثقافية، فأنه تحول الى فكر شعبي على يد السادة وشيوخ العشائر، الذين كان من مصلحتهم ربطه بمرجعية دينية، على الضد تماما من  الفكر القومي الأوربي الذي برز على حساب، وبالضد من، الفكر الديني والسلطة الدينية. ويمكن القول أن الفكر القومي العربي قد مسخ كونه لم يعبر عن تطلعات البرجوازية العربية، التي لم تكن قد نشأت بعد كطبقة، وأنما عن تطلعات الطبقات والشرائح المعادية للبرجوازية القومية ولقيمها التقدمية، وعن سعي تلك الطبقات الى الأحتفاظ بمواقعها السياسية والأقتصادية ومنظومتها القيمية والحقوقية.

وأنعكس هذا التشوه الخلقي للحركة القومية العربية، التي أتخذت من الإسلام أساسا لها، إنعكس في سلوك الحركات القومية التي قدر لها قيادة تجارب حكم في أكثر من بلد عربي، لانها قامت على فكر ملفق، لا يجمعه جامع بالفكر القومي المعروف باعتباره نقضا تقدميا للفكر الكهنوتي ـ الاقطاعي. وبدلا من أن تقيم الحركات القومية تجاربها في الحكم على أسس الديمقراطية البرجوازية المعروفة، قامت تلك التجارب على معاداة الديمقراطية، وعلى زعامات أستبدادية تمتد جذورها عميقا في أرث الفكري الديني ـ الأقطاعي رغم أنكارها لتلك الجذور.