في التاسع عشر من شهر آب / أغسطس الماضي مرت الذكرى الثلاثون على محاولة الانقلاب العسكري على آخر رئيس للاتحاد السوفييتي 1991، ميخائيل جورباتشوف، ومع أن تفكيك الدولة السوفييتية جرى التصديق عليه نهاية ذلك العام في ديسمبر، إلا أن تاريخ المحاولة الانقلابية اُعتبر التاريخ الفعلي لانهيار الدولة السوفييتية في ضوء التداعيات التي رافقت الانقلاب وأعقبته وحيث بات انهيار الدولة محتوماً ومسألة وقت لدى أي مراقب يتمتع بأدنى بصيرة، وهذا ما كان.
والحال أن المؤشرات الأولى الأسبق لشيخوخة الدولة برزت مع منذ مطلع الثمانينات في ضوء الغياب الكلي لنشاط الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي ورئيس الدولة ( رئيس مجلس السوفييت الأعلى) ليونيد بريجنيف، وفي خلال أقل من ثلاثة أعوام شهد الاتحاد السوفييتي ثلاثة تغييرات في زعامة الحزب والدولة: الأول غداة وفاة بريجنيف 1982 حيث اُنتخب يوري أندروبوف في الحزب الحاكم محله، والثانية بعد وفاة هذا الأخير في 1984 حيث اُنتخب قسطنين تشيرنينكو مكانه، والثالثة بُعيد وفاة هذا الأخير في تشيرني نكو 1985 والذي اُنتخب ميخائيل جورباتشوف مكانه، وكان هذا الأخير آخر زعيم لهذه الدولة الجبارة العظمى والتي شيدها الزعيم العظيم فلاديمير لينين و عمّرت زهاء ثلاثة أرباع القرن. وكان لوجودها- كما نعلم - تأثير كبير وحاسم في مجريات أحداث القرن العشرين، كما كان لوجودها أيضا دور محوري عظيم في دعم وانتصار حركات التحرر الوطني العالمية من ربقة الاستعمار الكونيالي ونيل حقها في تقرير المصير والاستقلال الوطني، وهو ما غيّر خريطة موازين القوى في العالم مقارنة بالحقبة الكولونيالية، ناهيك عن دورها الكبير في دعم ونصرة وتقوية نضالات الطبقة العمالية العالمية، إن بصورة مباشرة من خلال دعم حركاتها النقابية أو من خلال دعم أحزابها الشيوعية في العالم.
وبطبيعة الحال فإن غياب الدولة السوفييتية ترك ومازال يترك فراغاً خطيراً على الساحة الدولية لصالح الغرب والرأسمالية العالمية حيث أختل ميزان القوى الدولي لصالحهما بعد أن أضحى النظام الدولي يقوم على القطبية الواحدة( الولايات المتحدة) تقريبا بعد ما ظل يقوم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 على نظام القطبية الثنائية ( الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي )، وتأثرت لهذا الغياب مصالح شعوب ودول عديدة في العالم وبخاصة في العالم الثالث، وفي مقدمة الذين التي تضررت مصالهم كثيرا لغياب الاتحاد السوفييتي دولنا وشعوبنا العربية وقضاياها الوطنية والقومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ناهيك بالطبع عن الأحزاب الشيوعية والحركات اليسارية والقومية في أقطارنا العربية، وإن كان الانهيار تزامن مع وهن أعترى معظم تلك الأحزاب لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية المتعددة، وليس فقط بسبب انهيار الاتحاد السوفييتي، وذلك بسبب ما اُرتكب من أخطاء متراكمة، فضلا عن الضربات الوحشية المتلاحقة من قِبل الأنظمة العربية الدكتاتورية ومحاربة مناضلي الأحزاب الشيوعية التي لم تقتصر على حملات الاعتقالات الجماعية والفردية والتعذيب والقتل خارج القانون، بل شملت مصادرة الجنسية وتجريدهم من حق العمل وغيرها من ضروب الحقوق المدنية.
وللأسف فإن الأحزاب الشيوعية العربية تأخرت طويلاً في أجراء مراجعات لمسيرتها الفكرية والنضالية ولم تنخرط في هذا النوع من المراجعات إلا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مباشرة، وإن كان بعضها جرى على استحياء في أواخر عهد جورباتشوف على أيدي كتُاب وقادة محسوبين على تيار الأحزاب الشيوعية. ومع أن تلك المراجعات متفاوتة في مدى صراحتها وشفافيتها، إلا أنه يمكن القول بوجه عام بأن أغلبها تميز بحد أدنى مقبول من المكاشفة والمصارحة، بل كان بعضها بلغ فوق الحد الأدنى إلى درجة وصفه البعض بأنه كان أقرب إلى جلد الذات.
ومع ذلك فثمة نقاط كانت غائبة عن تلك المراجعات لم يتم التطرق إليها، وعلى أي حال فإن السؤال الذي يطرح نفسه بعد مرور ثلاثة عقود من تلك المراجعات: لماذا رغم تلك المراجعات ما زالت الأحزاب الشيوعية لم تتقدم إلى الأمام من تراجعها التاريخي إلا على نحو محدود حققته بضعة أحزاب تقل عن أصابع اليد الواحدة؟ فهل اُجريت تلك المراجعات الشجاعة للاستفادة من عِبرها ودروسها ووضعها موضع التطبيق أم لتسجيل موقف تاريخي على الورق لتوضع بعدئذ في الأدراج وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ وأخيرا وترتيباً على ما تقدم من أسئلة يبقى السؤال الأهم: إلى أي مدى استطاعت الأحزاب الشيوعية العربية أن تتماهى مع مراجعاتها في خريطة أو طريقة سياساتها الفكرية والنضالية الجديدة على أرض الواقع والممارسة الفعلية؟ ذلك ما سنحاول الإجابة عليه في الحلقة القادمة.