جميل وضروري أن يكون لنا موقف نقدي من ما هو سائد في مجتمعاتنا من أفكار ومعتقدات وأنماط علاقات، وأن نتفحص الأحداث والظواهر من زوايا غير تلك المألوفة والمستندة الى انحيازات عاطفية أو عقائدية مسبقة أو ناجمة عن تحجر الفكر.

 كل هذا جميل وضروري، ولكن يتطلب منا أن نتحرر نحن بدورنا، من الوقوع في ذات المطب إنما باتجاه معاكس، أي أن نتبنى الموقف المضاد لما هو سائد دون فحص جوانب الخطأ فيه.

 والحقيقة أن الإنزلاق الى هذا الموقف من جانب بعض الأصدقاء ((العلمانيين)) يتجلى، أكثر ما يتجلى، في تبني الخديعة الإسرائيلية التي تدعي أن إسرائيل دولة ساعية للسلام، وان الفلسطينيين والعرب عموما، هم من يرفض إيجاد حل سلمي الصراع في المنطقة.

 ومع كل جريمة ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ومع كل مساومة لحاكم عربي مع أسرائيل، وردا على أصوات الأستنكار للجريمة والمساومة، ينبري هؤلاء الأصدقاء، والذين لهم في المعتاد مواقف عادلة من الأحداث في بلدانهم والمنطقة، ينبرون لشجب حالة الأستنكار، ويجانبون الحق والعدل فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، ولا يتردد بعضهم في مجرى حماسته عن استخدام ألفاظ وتعابير نابية لا تليق بهم، ولا بأي أنسان عادي يحترم نفسه ويحترم الأخرين، الفاظا مثل (( عواء، نعيق، زعيق)).

 وفي ردهم على ((العواء والنعيق والزعيق))، يتجاهلون جوهر المشكلة والمأساة الفلسطينية، ويركزون، على ما يصفوه برفض الفلسطينيين لفرص سلام متكررة، يبدأوها بأدانة الفلسطينيين، لأنهم رفضوا قبول قرارات أجنبية بتقسيم بلادهم ومنح جزء أساسي منها لمهاجرين من قارات أخرى، ويعتبر هؤلاء الأصدقاء العلمانيون أن الحروب التي شنتها إسرائيل ضد البلدان العربية في 1956، 1967، 1982، والتي توسعت فيها واحتلت كامل فلسطين وأجزاء من سوريا ولبنان والأردن، يعتبروها مجرد رد فعل أسرائيلي على رفض الفلسطينيين والعرب للسلام، مع أن العرب لم يكونوا في الحقيقة أصحاب المبادرة في أي من تلك الحروب. الأستثناء الوحيد هو حرب التحريك 1973، كما وصفها مطلقها أنور السادات، بغرض إستعادة سيناء التي أحتلتها إسرائيل عام 1967، والتي أنتهت بثغرة الدفرسوار.

 ولأنهم عادلون وموضوعيون، فأن الأصدقاء المعنيون يتجاهلون حقيقة أن الفلسطينيين قد أعترفوا رسميا بإسرائيل وسعوا الى سلام معها، بأشد الشروط إجحافا بهم وبحقوقهم، في اتفاق أوسلو، الذي قتل المتطرفون الأسرائيليون الشخص الأسرائيلي الذي وقعه، رئيس الوزراء إيتسحاق رابين، الحائز على جائزة نوبل للسلام، وتنصل خلفاؤه في الحكم من بنود الأتفاق، وحاصروا الشخصية الفلسطينية التي وقعته، الرئيس ياسر عرفات الحائز أيضا على جائزة نوبل للسلام، وقتلوه بالسم.

 كما يتجاهل الأصدقاء العلمانيون أن العرب جميعا سعوا الى السلام، وقدموا مبادرة من أعلى مؤسسة رسمية عربية هي مؤتمر القمة العربي، تعتمد على قرارات أعلى هيئة دولية هي مجلس الأمن الدولي، وهي المعروفة بمبادرة السلام العربية القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام، وأن إسرائيل هي من رفضت تلك المبادرة، وهي من خرق القرارات الأممية بضم أراض محتلة وفق تلك القرارات هي القدس، وهضبة الجولان السورية.

 ولا يشير الأصدقاء العلمانيون إلى أن أسرائيل قد تحولت الى دولة دينية بقراراها الدستوري الذي ينص على أن إسرائيل التي لا حدود ثابتة لها هي دولة الشعب اليهودي، وليس الشعب الذي يقيم في إسرائيل. ويغضون الطرف عن كون أسرائيل لم تحدد لها حدودا، لتكون حدودها هي أخر نقطة تصل إليها جزم جنود ((جيش الدفاع الأسرائيلي)).

 توافق هذه الشريحة من الأصدقاء العلمانيين مع الرؤية الإسرائيلية للصراع، وعدم توجيههم أي نقد لها وإمتناعهم عن إدانة السياسات الإسرائيلية التي تستند اليها، وانشغالهم بالترويح للبروبوغاندا الإسرائيلية بشأن الرفض الفلسطيني العربي للسلام، يعمق من عزلتهم، عن المجتمعات التي هي في أمس الحاجة الى جهدهم التنويري، ويوسع من المجال أمام فكر الظلام والإرهاب لمزيد من التغلغل في العقل الجمعي العربي الهش.

 الأنحياز هؤلاءالأصدقاء لقوة عاشمة تضطهد شعبا آخر وتصادر حقوقه، وترفض كل فرص السلام، وقلبهم الحقائق والزعم بأن العرب هم من يرفض السلام، أمر يبعث على الحيرة، فنحن غير قادرون على التشكيك في نزاهتهم أو اتهامهم بشبهات لا دليل قاطع عليها.