لا يبدو أن موجة الاحتجاجات الشعبية ستنتهي، كما يأمل الحاكمون.

ومن نافل القول التأكيد بان ديمومتها رهينة ببقاء ذات الأسباب العميقة التي أدت إلى انطلاقها أساسا.

لكن ما يلاحظ أن وتيرتها تتصاعد وتتراجع بين الفينة والاخرى تبعا لمجموعة عوامل متنوعة، قد تبدو أحيانا مرتبطة بحدث آني يعيدها بقوة إلى الواجهة السياسية.

وإن كانت الاحتجاجات تلك، ومنذ البدء وحتى لحظة تفجرها على نطاق واسع مطلع شباط ٢٠١١، قد افتقدت إلى حد كبير إلى إطار تنظيمي أو تنسيقي جامع لها، فأن تطورها الذي أفضى إلى انتفاضة

تشرين ٢٠١٩ قد أشر إلى وجود رغبة أو إدراك عام بأهمية التنظيم وضرورته، ناهيك عن بروز

بعض الوجوه الشبابية المعبرة، بهذا الشكل او ذاك، عن روح الانتفاضة وتوقها للخلاص من وضع

سياسي واقتصادي لم يعد مقبولا.

وعلى هذا الطريق تعددت التنسيقيات والتنظيمات في مختلف المدن الرئيسة للاحتجاج والانتفاض، وإن كانت تفتقد للكثير من المقومات الأساسية لاستمرارها الفعال.

وما يلاحظ هنا، أن " بغداد - المركز " لم تعد بالضرورة هي المبادرة في هذه النقطة الاساسية، رغم كون احتجاجاتها هي الأكثر سعة للأن، بحكم العدد السكاني اولا و" موجات " القادمين اليها من

المنتفضين عند اعلان احتجاجاتها المسبقة ثانيا، ولتمركز الكثير من الوجوه المؤثرة والبارزة فيها ثالثا.

لكن ذاك لم يلغ للأن سمة النقص الأساسية في الحركة الاحتجاجية كلها. وأعني به الإطار التنظيمي

الجامع، ناهيك عن البرنامج الأدنى والمتفق عليه وطنيا في تحديد مآلات ومسارات الحركة وأهدافها

النهائية.

ولا يبدو هدف كهذا يلوح في الأفق القريب في ظل غياب معارضة يعتد بها لعملية سياسية مشوهة أنجبت نظاما فاسدا استند على المحاصصة والنهب ومنذ العام ٢٠٠٣، ناهيك عن عدم وجود قيادة أو حزب سياسي يتمتع بمقبولية وطنية واسعة في الشارع العراقي الأن.

وبعيدا عن الأسباب الكثيرة والمعقدة التي أفضت إلى وضع كهذا، فثمة ما يلوح في الأفق بأن العديد من الفاعلين الأساسيين في حركة الاحتجاج، وفي مختلف المحافظات العراقية، قد أدركوا " عقدة النقص " هذه، بل وضرورة تجاوزها في خضم الصراع مع خصم مدجج بالسلاح والتجربة وبحماية السلطة

أيضا! …

لكن إنجازها الوطني الناجح، وفي اللحظة الراهنة، يبدو معقدا إلى حد كبير.

وفي مجرى البحث عن " طرق ملموسة " يمكن الذهاب إلى الآتي:

أن يجري بذل جهد استثنائي لإنشاء إطار ما أو تنسيقية يستظل بها الجميع، وبحدود ثلاث محافظات في البدء. وبديهي أن يكون ممثلوها من الناشطين الحقيقيين في ساحات الاحتجاج ومن الوجوه المدنية

والاجتماعية المقبولة في هذه المحافظات.

وطبيعي هنا أن تكون نقطة البدء في المحافظات الأكثر رفضا واحتجاجا وديمومة وخبرة منذ العام

 ٢٠١١ وللأن.

وهنا لابد من الاتفاق على برامج عمل وطرق مرنة إلى حد كبير في اختيار وإنجاح التنسيقات الأولى، مع مراعاة الشبيبة وتنوع مشاربهم وأصحاب الخبرة في تكوين النواتات القيادية الأساسية.

وما أظنه ان المفاوضات اللاحقة مع أي محافظة أخرى ومحتجيها سيكون أيسر عندما يكون الوفد

المفاوض معها يمثل ثلاث محافظات، مع عرض لتجربته الناجحة مثلا في التشاور وتبادل الرأي

وتحديد وطرح الشعارات المناسبة وطرق التعامل مع الأجهزة الأمنية وما إلى ذلك.

ان كسب كل محافظة جديدة مقرونا بتوسيع الإطار التنظيمي سيكون خطوة جادة على طريق طويل،

 لكنه حتمي وضروري إلى حد كبير، لخلق " تنسيقية واحدة " على المستوى الوطني ستأخذ على

عاتقها تحديد أهداف الاحتجاج والانتفاض اللاحق وشعاراته وطرق تنظيمه، والتفاوض مع السلطة ان

اقتضى الأمر، وصولا إلى زعزعة نظام المحاصصة الفاسد برمته واقتلاعه من جذوره عبر عملية

سلمية قد تكون الانتخابات أو العصيان المدني هو الحكم الفيصل فيها.

ان النقص التنظيمي هو مقتل حركة الاحتجاج في اللحظة الراهنة، وعلينا جميعا البحث عن " طرق

ملموسة " لردمه وتجاوزه من أجل الهدف الأسمى المتمثل ببناء دولة المواطنة الحرة ومؤسساتها

القانونية اللازمة، بعيدا عن التميز الطائفي والقومي.

عرض مقالات: