كانت الأنتخابات النيابية المبكرة أحد المطالب الأساسية لثوار تشرين.وكان الهدف منها بلوغ التغيير الجذري للعملية السياسية، وإزاحة الطغمة الحاكمة الفاسدة الجاثمة على صدور العراقيين، والتأسيس لنظام  ديمقراطي حقيقي ولدولة المواطنة ولسيادة القانون والعدالة الإجتماعية الضامنة للحياة الحرة والكريمة للغالبية العظمى من العراقيين.

هذا المطلب الشعبي الهام جوبه، كما شهد القاصي والداني، بمساع خبيثة حثيثة من قبل الطغمة الحاكمة، لتشويه مساره، بل ولمسخه كلياً. وما انفكت تسعى جاهدة لوأده، من خلال تأجيل الأنتخابات، مرة أخرى ، وحتى إلغائها، مختلقة ذرائع شتى، بغية البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، لا سيما بعد ان لمست حجم الموقف الشعبي الرافض لسلطتها  وتحديه  لكافة وسائلها القمعية الدموية..

واليوم، أفرزت الأوضاع السياسية والأقتصادية- الإجتماعية الراهنة وسط الشارع العراقي العريض موقفين مختلفين من الأنتخابات النيابية المبكرة المقرر إجراؤها في تشرين الأول القادم:

    الأول - موقف رافض للمشاركة فيها، وقد شرعت تتبلور جبهة شعبية رافضة، مؤلفة من قوى مدنية ووطنية ديمقراطية وتشرينية، وقوى وطنية من خارج البرلمان، إنضمت إليها مؤخراً قوى من داخل البرلمان، معلنة عن إدانتها لجرائم إستهداف نشطاء الحراك الشعبي، وللمرشحين المعارضين لمنظومة المحاصصة والفساد، ومعبرة عن إستنكارها لتنصل حكومة الكاظمي عن الإيفاء بتعهداتها لثوار تشرين، وفي مقدمتها حماية المتظاهرين، والكشف عن قتلة ثوار تشرين، ومحاسبة حيتان الفساد، ونزع سلاح المليشيات، وتأمين البيئة الآمنة، الى جانب إستعادة الأموال المنهوبة، وتوفير الخدمات، وتحسين الوضع المعيشي للشرائح الإجتماعية الفقيرة والمحتاجة..

 الثاني- يتبنى المشاركة في الإنتخابات المبكرة، ويضم في أطرافه قوى مدنية ووطنية ديمقراطية وتشرينية، أغلبها متحمسة للمشاركة بالأنتخابات على أمل بلوغ التغيير المنشود، معتمدة على وعود وتعهدات الكاظمي، وحسن الظن به وبحكومته، والوثوق بها، جهلآ بحقيقتها وبمساعيها والجهات التي تخدمها..

 وهناك أطراف تروج للمشاركة في الإنتخابات خبثاً وإنتفاعاً من فُتات ما " تجود به " عليهم الطبقة السياسية المتنفذة، من مناصب وتعيينات ومنافع أخرى، وبينها من تخلى عن مسؤوليته الوطنية مقابل مكاسبه الشخصية والحزبية، الى جانب  جيش من الإعلاميين المأجورين أعدته السلطة لخدمة كتلها وأحزابها..

عتبنا على المتحمسين للإنتخابات المبكرة من القوى المدنية الذين يتجاهلون أو يتناسون تداعيات المشاركة فيها، والتي يراد لها شرعنة وإدامة منظومة المحاصصة والفساد وسلطة اللادولة والمليشيات، بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.هذا في الوقت الذي يتوقع المراقبون والمحللون السياسيون الموضوعيون ان يكون التنافس الأنتخابي بين القوى المتنفذة على أشده، وسوف لن يكون تنافساً شريفاً أو ديمقراطياً أو نزيهاً. وسيكون السلاح المنفلت للمليشيات حاضراً وبقوة، وليس مستبعداً ان يصل النزاع حد الإقتتال بين المليشيات نفسها، وبينها وبين القوات الأمنية المحايدة، وستتصاعد الهجمات على النشطاء المعارضين، وستكون غالبية الضحايا من المواطنين الأبرياء..

المؤسف والمؤلم أنه رغم كل ما شهده العراقيون من فواجع واَلام  طيلة العام الأول من عمر حكومة الكاظمي, لم يدرك البعض من المتحمسين للإنتخابات أن وعود الكاظمي ما هي إلا وعود فارغة، وتعهدات كاذبة، وضحك على ذقون السذج والبسطاء، بينما أدرك ذلك حتى أبسط المواطنين، الذين لمسوا كثرة تغليساته حيال ما يتعرضون له يومياً، ومواصلة مماطلاته وتسويفه للمهمات التي تعهد بتنفيذها..

يبرر البعض مشاركته في الإنتخابات المبكرة بان المقاطعة " ليس موقفاً سليماً"، لأنها "ستمنح الشرعية " للقوى المتنفذة للبقاء مهيمنة في السلطة.. وكأن قرار بقائها أو عدم بقائها في السلطة بيد القوى المعارضة لها.. أو ان القوى المعارضة "قادرة"، بوضعها الراهن ، على كسب الإنتخابات، و "ضامنة" لإلحاق الهزيمة بالطغمة الحاكمة.. بينما كل الدلائل تؤكد بان العكس هو الصحيح تماماً: المقاطعة الشعبية الواسعة ستنزع الشرعية عن السلطة، وتعزلها داخلياً ودولياً..

وفيما يتعلق بالقوى المدنية والوطنية الديمقراطية والشخصيات الإجتماعية والتشرينيين،فان البعض منها المتحمس للمشاركة في الإنتخابات، ينسى او يتناسى الوضع المزري الراهن لقوى المعارضة، الذي لا يؤهلها حالياً للدخول في معركة متكافئة ضد نفوذ قوى وأحزاب ومليشيات المنظومة الحاكمة..

  وهذا البعض يعول على تعهدات الكاظمي، وقد عمت عيونه وبصيرته  ما شهده العراقيون في ظل حكومة الكاظمي، ونتيجة لسياساتها المتخبطة والرعناء، من أحداث وجرائم  وفواجع، الى جانب تردي اوضاعهم المعيشية أكثر،خاصة شرائح الكسبة والكادحين وذوي الأجور اليومية..

 والأنكى، هو إستمرار جرائم القمع الدموي الوحشي، والملاحقات والإغتيالات والأعتقالات والتغييب القسري والترهيب والترويع والتشريد لنشطاء الحراك الشعبي.. ولن ينسى العراقيون الدور الذي لعبته حكومة الكاظمي ضمن مساعي إخماد ثورة تشرين المجيدة، وفضها للإحتجاجات والإعتصامات الجماهيرية بالقوة، بالتنسيق والتعاون مع المليشيات، وإستغلال الأوضاع الإستثنائية التي فرضها وباء كورونا. .

من السذاجة، لا بل من الغباء، الإعتماد على وعود الكاظمي وحكومته بضمان توفير الأمن الإنتخابي المطلوب لإنتخابات حرة ونزيهة، وهي ( الحكومة) عاجزة عن حماية نفسها، ورموزها ومؤسساتها من إستهتار وإحتقار وإهانات المليشيات المنفلتة.. لو أن حكومة الكاظمي "قادرة" على ضمان الأمن الإنتخابي حقاً وفعلآ لتصدت لجرائم تصعيد العنف الجاري من الآن ضد نشطاء الحراك الشعبي، ولجرائم التهديد والترهيب والترويع وبث الرعب والخوف وسط المرشحين والناخبين المعارضين، مما إضطر العديد من المرشحين سحب ترشيحهم..كتلة "بيارق الخير" مثالآ..

على الجميع ان يدركوا ان الأنتخابات القادمة لن تفضي الى خلاص الشعب من هيمنة الطغمة الحاكمة الجائرة، ومن منظومة المحاصصة السياسية الطائفية والإثنية، ومن الفساد، ومن القمع والقتل والأضطهاد.. أي أن الأنتخابات المرتقبة لن تأتي بالتغيير الجذري المنشود، لأنها بصراحة لن تكون حرة ونزيهة وعادلة في غياب الشروط المطلوبة، وفي مقدمتها غياب الأمن الأنتخابي وعدم توفر ضمانات الحيادية والنزاهة والعدالة..أي  لا توفر البيئة الاَمنة والمشجعة، ولا ضمانات عدم إعادة إنتخاب الطغمة الحاكمة ..

  الانتخابات القادمة لن تختلف عن سابقاتها من حيث التزوير، لا بل التوقعات الموضوعية أنها ستكون الأكثر تزويراً، والأشد عنفاً، والأكثر دموية، وستسفط دماء أخرى للكثيرين من أبناء وبنات الشعب المعارضين للسلطة الحالية، عبر الأغتيالات والخطف والتغييب، وحتى الرصاص الحي للمليشيات الوقحة..

 وفي كل الأحوال سوف لن تزيح الانتخابات القادمة،في الأوضع السائدة، القوى المتنفذة، ولن تخلص الشعب من الفساد السياسي الإداري والمالي المعشعش في مؤسسات الدولة.. وبالتالي، سوف لن يحصل التغيير المنشود، الذي قدم من أجله أكثر من 30 ألف من شباب وشابات ثورة تشرين المجيدة تضحيات جسيمة، بين شهيد وجريح ومعوق ومختطف ومغيب..

ليس معقولآ ان "تنجح" الأنتخابات، و"ينال" الشعب التغيير الجذري المنشود، في ظل السلاح المنفلت، وهستيريا المليشيات، وتصاعد جرائم  الإغتيلات والخطف والتعذيب والتغييب القسري للناشطين المدنيين على أيدي البلطجية وعصابات الجريمة المنظمة التابعة للأحزاب الفاسدة..

  يضاف الى ذلك عدم تطبيق قانون الأحزاب النافذ، الذي يمنع الأحزاب التي تمتلك أذرعاً عسكرية، ويمنع إستخدام المال السياسي، وشراء الذمم والأصوات، ولا يسمح للمجرمين والفاسدين بالترشح للإنتخابات..

 وقانون الأنتخابات المعدل جاء  مفصلآ على مقاس الطبقة السياسية المتنفذة..

   كما وان "المفوضية العليا للإنتخابات" ليست مستقلة إطلاقاً،وإنما جاءت، كالعادة ، بالمحاصصة..

   ويواصل مجلس القضاء الأعلى والأدعاء العام، والقائد العام للقوات المسلحة، عجزهم عن ملاحقة وإعتقال ومحاسبة القتلة وحيتان الفساد، وعن الكشف عن قتلة المتظاهرين..

    وكل هذا شجع، دون ريب، على مواصلة وتصعيد تهديد وإغتيال وخطف وتغييب نشطاء الحراك الشعبي، واَخرهم الشهيد إيهاب جواد الوزني.. وتؤكد تقارير رسمية، مسربة، وجود قوائم لمزيد من التصفيات الجسدية ستنفذ قبيل الأنتخابات. وقد تلقى التهديد بالقتل العديد من نشطاء الحراك الشعبي ومن الصحفيين.. وستتصاعد موجة القمع الدموي والقتل العمد، الى جانب المزيد من أعمال الترهيب والترويع

وبدأت من الآن تتصاعد حدة الصراع والتنافس على كراسي الحكم من قبل الكتل الشيعية الكبيرة، وقد هدد الصدريون بأنه إن لم يكن رئيس مجلس الوزراء القادم منهم، فان "الأنتخابات ستكون مزورة" - كما صرح حاكم الزاملي- أحد قادة التيار .. وهذا يعني ان الأحزاب الشيعية التي "أخذت السلطة ولن تنطيها"- كما اعلن نوري المالكي ، سوف لن تسلم السلطة، في حالة خسارتها للإنتخابات، التزاما بمبدأ التداول السلمي. وستضرب عرض الحائط بمبدأ عدد المقاعد النيابية الفائزة في الانتخابات هو من يحدد من له الحق بترشيح واختيار رئيس الوزراء المقبل..

ولعل السؤال الأهم:

ما هي ضمانات عدم تزوير نتائج الأنتخابات في ظل إنعدام الأمن، وسيطرة الفاسدين، وإستهتار المليشيات الطائفية المنفلتة، في الحياة العامة ؟

هل تعولون على وعود وتعهدات كاذبة لحكومة فاشلة، عاجزة وخانعة ؟

أتوجه الى القوى المدنية والوطنية الديمقراطية والشخصيات الإجتماعية والى التشرينيين الحقيقيين، داعياً  ان يتوقف من يخدع نفسه والجماهير البسيطة منهم، بأن المشاركة في الأنتخابات المبكرة "ستزيح " الطغمة الفاسدة، و"ستغير" منظومة المحاصصة والفساد، وتسقط سلطتها الجائرة..

    وأرجو ان يكونوا صريحين وجريئين  في نظرتهم للواقع، بما فيه وضعهم الراهن وأمكاناتهم التنظيمية والسياسية والجماهيرية الحالية، كقوى وأحزاب ومنظمات مدنية، التي تدلل بما يقبل الشك بأنها ليست كافية إطلاقاً لتحقيق الهدف المنشود لثوار تشرين- التغيير الجذري والشامل.. هي ليست قادرة في الوقت الحالي على تحقيق هذا الهدف النبيل والكبير، لاسيما وهي مازالت منقسمة،مشتتة، متفرقة، وبعضها لم يفارق أنانيته، راكضاً خلف الزعامات والمناصب والمكاشب الذاتية.. والأشد أسفاً وحزناً أن أغلبها لم يأخذ الدروس والعبر من تجربة ثورة تشرين المجيدة، وتحديداً ما يتعلق بأفتقارها لتنظيم قوي، ولقيادة موحدة وكفوءة، ولخطاب موحد ومؤثر، ولبرنامج وأهداف مرحلية محددة متفق عليها جماعياً،الخ، الامر الذي سهل قمعها ومحاولات وأدها، وبالتالي عدم نجاحها لحد اليوم..

يا سادة يا كرام:

إذا لم تعملوا فوراً على تلافي الأخطاء والنواقص والسلبيات، السابقة والراهنة، وعلى تجاوز الصعوبات، وهي كثيرة جداً، وتصبحوا مستعدين، كجبهة شعبية قوية، لمجابهة التحديات، فلن تستطيعوا وأنتم غير موحدين تنظيمياً وسياسياً وفكرياً ، وغير قادرين على مجابهة منظومة مهيمنة على مقدرات البلد، وتمتلك السلطة والنفوذ والمال والمليشيات والأعلام المأجور، ولديها الأغلبية في السلطة التشريعية ، ان توصلوا لمجلس النواب نسبة مؤثرة.وفي كل الأحوال  لن تستطيعوا أسقاط المنظومة الفاسدة !..

ان من يسعى منكم  لخلاص الشعب العراقي من منظومة الحكم الفاسدة، وفاء لدماء الشهداء الأبرار ولتضحيات ثوار تشرين البواسل ، والأخذ بثأرهم، بالقصاص من المجرمين على وفق القانون والعدالة، عليه ان يدرك جيداً ان ذلك لن يتحقق إلا بإسقاط المنظومة وأركانها..وبلوغ ذلك لن يتحقق بخوض الأنتخابات المبكرة على نحو غير متكافئ، وإنما بتشكيل جبهة شعبية نضالية عريضة وموحدة تنظيمياً وسياسياً وفكرياً، وذي قيادة موحدة وكفوءة قادرة على إستنهاض الجماهير العريضة وتعبئتها للكفاح الشعبي السلمي الفاعل والحاسم، الذي يحقق التغيير الجذري المنشود، ويؤسس للنظام الديمقراطي الحقيقي، ولدولة المواطنة، وللعدلة الأجتماعية، الضامنة للحياة الحرة الكريمة لجميع العراقيين.

خبر مفرح: وفقاً لمعلومات تداولتها وكالات أنباء عراقية تعدُ قوى ثورة تشرين لعقد مؤتمر جديد، تعيد من خلاله تنظيم صفوفها، وتنظيم الحركة الاحتجاجية رداً على التصعيد بعمليات الاستهداف التي تطاول الناشطين ، وتضع خريطة طريق للمرحلة المقبلة، وتحديد موقفها إزاء العملية السياسية والانتخابات المقبلة..

كمواطن عراقي  تجاوز الثمانين، شهد وعاش الكثير من الأحداث والتجارب والتغيرات والتطورات العراقية، طيلة سبعة عقود من تأريخ العراق المعاصر، أبارك هذه المبادرة، وأدعو كافة القوى الوطنية والديمقراطية والمدنية الجادة والحريصة على حاضر ومستقبل شعبنا، ان تشارك في هذا المؤتمر،وتعجل بعقده، وتسعى الى إنجاحه من خلال المشاركة الواسعة فيه لكافة القوى الوطنية الخيرة والحريصة ، وتبني الطريق النضالي السليم، مضمون النجاح، المبني على أرضية العمل الجماهيري الموحد والمشترك تنظيمياً وسياسياً وفكرياً،

وهدفه الأسمى مصلحة الشعب والوطن ..ولتكن من مقررات المؤتمر مقاطعة الأنتخابات المبكرة، وإنجاح المقاطعةّ.، وإستثمار الجهود والطاقة والوقت  لتحقيق أهداف ثورة تشرين المجيدة.

عرض مقالات: