لماذا لم تهدأ الانتفاضة في الناصرية؟ لا زالت صور الصراع تتكرر بين شعب يصيح ليل نهار مطالبا بحقوقه منذ سنين، وقوات الشغب وما رافقها من ميليشيات تقتل الشباب بالرصاص الحي، وكأن الناصرية تدفع دين أرثها الحضاري السومري وربما تمردها حينما أعلنت إمارة المنتفك التي أسست عام 1530 وقضى عليها الاحتلال البريطاني للعراق عام 1918، وكانت قد شملت مناطق واسعة من جنوب العراق.
فقد كانت هذه الإمارة الفتية تحارب أعداءً كثر من دول المنطقة: العثمانية، الصفوية، عربستان، السعودية (آل رشيد- وآل سعود)
وظلت الناصرية في التاريخ المعاصر تشكل وجعا لرأس الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة، أذ أصبحت أهوارها منطقة آمنة من قطعان الحرس القومي بعد انقلاب 8 شباط 1963، ونقطة انطلاق ضد الحكومة في بداية الستينات، وشهدت معارك ضارية مع السلطة ومنها المعركة التي استشهد فيها الشيوعي البطل خالد أحمد زكي وعدد من رفاقه.
ولم تهدأ الناصرية بعد سحق انتفاضة 1991، وحاول النظام البائد عبثا تحطيم معنويات المقاومين والناس من خلال تجفيف الاهوار وضرب القرى بالنابالم.
واليوم الناصرية المثخنة بالجراح والخارجة من تهميش النظام السابق، تحارب أعداءً كثر أيضا، متمثلين بمافيات الفساد المركزية والمحلية وتعاني أيضا كبقية مدن العراق الأخرى من تدخل دول الجوار ومن آثار الاحتلال الذي قوى الفئات الطفيلية المرتبطة به، وفسح لها المجال أن تتسيد المشهد.
لمن الغلبة؟ الناصرية لها منجزها الموغل في القدم، وينبع من أهوارها المبدعون والكتاب، وتنهض أيضا فيها كل يوم، طاقات جديدة، ترفد هذه المحافظة والعراق بأكمله.
فمنها، ظهر حضيري أبو عزيز الذي كانت تتوقف سيارات بغداد لسماع أغانيه، وداخل حسن الذي لامس بصوته وجع الاهوار وأحزانها، وفهد الأسدي الذي كشف لنا بقصصه عدن الضائعة، ونقل لنا زامل سعيد فتاح مناجاته الى هور الجبايش، ويتعجب من عظمته وهو الرقراق الذي لا (ينشف)، وعريان سيد خلف صائد الهموم، الذي أعلن فاجعته فاجعتنا، أننا أصبحنا (ناعور بس يترس ويبدي)
الحديث عن نهر مبدعي الناصرية طويل، فهو لا ضفاف له، والشيء يقال نفسه عن ابطال هذه المحافظة ومفكريها، ومنتجي خيراتها المادية والروحية.
الناصرية غير نائمة على بساط تاريخها وإبداعها، ولكنها متأكدة، أن عينها تقاوم مخرز الطغاة، وستظل تناضل كي تجد الجواب عند الراسخين بالإرهاب والفساد، لماذا يقتل شبابها؟ ولماذا لا تتوفر لها ابسط الخدمات؟ ولماذا يطارد عسس السلطة المتضامنين معها في المحافظات الأخرى؟
استدراك
كلما اكتب عن وجع الناس يقول اصحابي: إنك (تؤذن في مالطا) ففي هذه الجزيرة التي ظلت لفترة طويلة يرفع الآذان بها للصلاة فلا يذهب أحد لان الأهالي بقوا على ديانتهم المسيحية.
ومعروف أن المثل يضرب ولا يقاس، ولكني أقول قولي هذا للتذكير فعسى أن تنفع الذكرى، فشباب الناصرية أعلنوها: فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى، وعلى المسؤولين أن يفتحوا أذانهم المغلقة بالطين والعجين، فلابد أن يسمع الجميع أغنيتنا (عل ناصريه يا يمه عل ناصريه)، ويجري إنصاف هذه المدينة السومرية المنكوبة.