قبل أيام قليلة من ذكرى الأنقلاب البعثي ـ القومي الفاشي الأسود الذي جرى في مثل هذا اليوم 8 فبراير / شباط عام 1963 على نظام ثورة 14 تموز العراقية الوطنية التقدمية تلقيت من أحد الرفاق البحرينيين على الواتساب صورة من افتتاحية مجلة "الآداب" البيروتية لعدد مارس / آذار 1963 والتي كانت واحدة من أعرق المنابر الأدبية والنقدية المعروفة بانفتاحها على مختلف التيارات الفكرية والأدبية المعاصرة ومن ضمنها التيار الماركسي، وقد عُرفت في الخمسينيات باحتضانها المطارحات النقدية للنقاد الشيوعيين المصريين في الدفاع عن تيار الواقعية في شتى أجناس الأعمال الادبية العربية ونقد المدارس الغربية الاغترابية التي تبعد المثقف الأديب عن واقعه الاجتماعي المزري بحيث يكون متفرجاً سلبيا لا أي دورله في إصلاحه.

كانت تلك الافتتاحية تحتفي بابتهاج بالأنقلاب الأسود الذي أسمته "ثورة" مبشرة بغد مشرق للعراق دون أن تنبس بكلمة واحدة عما تخللها من مجازر وجرائم وحشية لاإنسانية غير مبررة مهما كانت حدة الخلافات مع حكومة الثورة التي يُفترض أنهم شاركوا في صنعها. وبطبيعة الحال لم اُصدم أو أتفاجأ بمثل هذه الافتتاحية التي أستنكرها الرفيق بتعليق مقتضب منتظراً تعليقي، فأدليت برأيي باقتضاب أيضاً، ومفاده وماذا تتوقع؟ فهكذ هي حالة الوعي السياسي العربي المضلل في أوج أوج المد القومي الصاعد حينذاك؛ في حين هناك من هم أولى بالملامة من جانب حلفائنا الدوليين (الأتحاد السوفييتي تحديداً)وحكومة الثورةوقائدها المغدور عبد الكريم قاسم، ناهيك عما وقع فيه الرفاق الشيوعيين أنفسهم من أخطاء.

في اليوم نفسه تلقيت من رفيق آخر أيضاً مقطع فيديو مستل من فيديو أكبر لتصريح للناشط للأقتصادي والسياسي الأميركي المعروف جون بكينز الذي يوضح فيه بما لايقبل أي مجال للشك  تورط السي آي إيه في دعم الانقلاب الاسود؛  وأن بلاده ناصبت حكومة الثورة بقيادة قاسم العداء حالما كشف عن توجهاته الوطنية بتأميم الثروة النفطية وتسخيرها لمصلحة الشعب العراقي وفرض ضرائب على الشركات البريطانية والأميركية وغيرها ، وهو مالم يرق للولايات المتحدة التي قررت التخلص منه وأرسلت فرقة أغتيالات لهذا الغرض ليترأسها صدام حسين، كما يقول بيكنز بالحرف الواحد، وكما هو معروف فقد فشلت المحاولة التي تولاها صدّام ثم فر إلى سوريا. ويوضح بيكنز بأن الولايات المتحدة خلال حكم البعث الثاني(1968- 2003)ساندت بقوة حكم صدّام وسلحته عسكريا وبنت له مصانع أسلحة كيماوية صنّع فيها أيضاً غاز الخردل، وأنها كانت تعلم بنيته استخدامها ضد الأكراد، ولم تدر له ظهر المجن وتقف ضده إلا بعد فشلها في تطويعه لتوقيع اتفاقيات نفطية معها تضمن فيها لها السيطرة ونصيب الأسد على غرار أتفاقيات نفطية مشابهة وقعتها بلاده مع السعودية. ومما لاشك فيه أن شهادةبيكنز تنطوي على أهمية أستثتائية كونها تلقم المشككين في اتهامات الشيوعيين العراقيين وجهات اخرى محايدة حجراً للدور الأميركي المكشوف في كلا الأنقلابين البعثيين وهذا ما يفند بما لايقبل الشك أيضاً عدم تورع القوي والتيارات القومية عن التحالف مع ألد أعداء شعوبنا العربية الأمبرياليين في خدمة وصولها إلى السلطة ولوكان كبش الفداء لذلك أصدق حلفائها المفترضين.

وفي تقديري فإن كتاب بيكنز  "اعترافات قاتل اقتصادي" والذي عمل مؤلفه في الدوائر الأستخباراتية والاقتصادية كواحد من كبار المستشارين؛ وأعترف من تلقاء نفسه إثر وخزة ضمير أعترته بأدواره في تدمير أقتصادات بلدان العالم الثالث ونهب ثرواتها وافقار شعوبها بالأحتيال وبتواطؤ طغم عسكرية حاكمة فاسدة أوصلتها المخابرات المركزية نفسها إلى السلطة أو سلطات رجعية قائمة أمدتها بكل مستلزمات الدعم والحماية كما في الخليج العربي، هذا الكتاب في الواقع من أهم الكتب إن لم يكن أهمها التي صدرت خلال الثلاثة عقود الماضية والتي تكشف بجلاء وبالملموس الأدوار الاجراميةالتي أرتكبتها الأمبريالية الأميركية بإسم الديمقراطية وحقوق الإنسان بحق شعوب العالم الثالث وبضمنها شعوبنا العربية .  

واذا كان الشيوعيون العراقيون أعتادوا في هذه المناسبة استذكار هذا الأنقلاب المشئوم الاسود وما تكبدوا خلاله من خسائر فادحة في تلك الجرائم التي أرتكبها الانقلابيون والتي يندى لها جبين البشرية وماسطره مناضلوهم من أروع صفحات البطولة والفداء في مقاومة الإنقلابيين دفاعا عن الثورة ومكتسباتها، فإن هذا الحدث التاريخي الاستثنائي باعتباره الأنقلاب الأبشع في تاريخ الأنقلابات العربية ينبغي أن يستفيد من عبره ليس الشيوعيون العراقيون فحسب؛ بل كُل الشيوعيين والقوى الوطنية والديمقراطية في بلداننا العربية . ومع التسليم بحق الشيوعيين في أستذكار سنوياً هذه الذكرى الاليمة واستلهام عِبرها ففي تقديرنا ونحن الآن على أعتاب الذكرى الخمسين لأنقلاب شباط الاسود ينبغي ألا يقتصر دور الشيوعيين العرب والعراقيين بوجه خاص على ذلك،  بل التخطيط لتنظيم ورش عمل وندوات لاستلهام دروس وعِبر هذا الأنقلاب الأسود بشكل أعمق واكبر مما تم تناوله في العقود الخمسة الماضية تقريباً: لماذا وقع الأنقلاب ؟ وهل كان بإمكان الشيوعيون والذين كانوا في أوج قوتهم تجنبه حتى مع ثبوت تورط قوى عربية وعظمى أمبريالية فيه؟ لماذا لم يكن للحليف السوفييتي موقف حاسم منه؟ ولماذا لم تكن أجهزته الاستخبارية على علم به أو توقع بحدوثه؟ أين أخطأ الشيوعيون العراقيون بالضبط فيما أستفاد منه الأنقلابيون؟ وهل كان خيار أستلام السلطةعسكرياً صحيحاً؟ ولماذا تعرض الشيوعيون للخداع مرة ثانية في أنقلاب البعث الثاني 1968 أي بعد خمس سنوات ونيف من الأنقلاب الأول ودماء شهدائهم لم تكد تجف؟وهل ما كان ليتعرضوا لمجازر حكم البعث الثاني لو لم يشاركوا فيما سُمي ب "الجبهة الوطنية" ؟