كان النظام الديمقراطي موجوداً حينما دخلت الرأسمالية مرحلة الإمبريالية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في معظم الدول الرأسمالية، ومنها الولايات المتحدة، وقبلها كان تقاسم النفوذ الاستعماري في العالم موجوداً أيضاً بين هذه الدول، فلم تحل أنظمتها الديمقراطية دون منع دخولها المرحلة الإمبريالية بمساوئها المعروفة، ولا عن إقدامها على استعمار الشعوب واسترقاقها ثم رفض تعويضها عن تلك الحقبة الاستعمارية البغيضة التي نهبت خلالها ثرواتها وارتكبت جرائم يندى لها جبين البشرية. ولعل شعوب العالم احتاجت قرناً ونيفاً لتتكشف في عهد الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب حقيقة النظام الديمقراطي بلا رتوش والذي لطالما تبجحت وتشدقت به الرأسمالية الأميركية، حيث برعت إمبراطوريتها الإعلامية الجبارة في تضليل وتزييف وعي شرائح كبيرة من شعبها وشعوب العالم عن عظمة هذه الديمقراطية التي رغم محاسنها غير المنكورة إنما صممت بالدرجة الأولى لخدمة مصالحها. 

لقد كانت السنوات الأربع لولاية ترامب أشبه بحقبة تاريخية لما أحدثه من انقلاب جذري تمثل في قرارات غير مسبوقة أشبه بالصدمات غير المعهودة في السياستين الداخلية والخارجية خلال كل عهود الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين على السواء منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، وقد أنهى ولايته بسلسلة مدوية من الفضائح ، بدءاً من فترة الانتخابات الرئاسية التي لم يعترف بنتائجها مشككاً في نزاهتها في ظل نظام لطالما تباهى بامتلاكه تقاليد في انتقال السلطة بشفافية وسلاسة وتهنئة الخاسر للفائز، ومروراً بتحريضه بلطجيته العنصرية على اقتحام المؤسسة البرلمانية وهو الحادث الذي أسفر عن مقتل خمسة أشخاص بينهم شرطي في مشهد عنف ارهابي لا يقبل التأويل، وانتهاء بمقاطعته حفل التنصيب ومغادرته البيت الأبيض معززاً مكرماً بطائرة هليوكوبتر رسمية وليس كإرهابي يفترض أن يقبض عليه في الحال لمسؤوليته عما جرى في الكيبتول . وحتى إذا ما نجح الديمقراطيون في تقديمه للمحاكمة فمن المشكوك فيه تماماً أن يُحاكم وفق محاكمة نزيهة عادلة تنتهي به خلف القضبان أي بالعقاب الذي يستحقه كرجل ارهابي. وما علينا إلا نقارن ترامب المسؤول عن أحداث الكونجرس بأحداث مشابهة لو افترضنا وقعت في مكان آخر وكان المحرض عليها رجل عادي غير الملياردير الرئيس الأبيض ترامب وينحدر من الطبقات الوسطى أو الفقيرة، ولا سيما إذا ما كان أسود، أما كان يلقى القبض الفوري عليه هذا إن لم يُقتل في الحال؟ أوليس ذلك تعبيراً صارخاً عن أن الديمقراطية الأميركية غير عادلة وتكيل بمكيالين؟ والحال أن مهمة الرئيس بايدن وإصلاحاته ستكون عويصة وستواجه عقبات كأداء إذا ما أراد ترميم سمعة ديمقراطية نظامه السياسي العريقة حقاً، ذلك بأنها بفضل سلفه ترامب قد دخلت مأزقاً تاريخياً حقيقياً. صحيح أنه قام  فور تنصيبه بإلغاء جملة من قرارات ترامب العنصرية في ثوان بجرة قلم من توقيعه، ومن أبرزها: إعادة تثبيت انضمام أمريكا إلى اتفاقية باريس للمناخ ، عودة الانضمام لمنظمة الصحة الدولية، وقف العمل بالجدار على الحدود مع المكسيك، الغاء قرار حظر دخول مواطني ست دول إسلامية للبلاد، قرار بحماية أطفال المهاجرين من الترحيل وهو القرار الذي صادره ترامب ، إلا أنها وإن اتفقت والمعايير الإنسانية، فإنها لا تشمل تحميل مسؤولية بلاده عما تسببت فيه للعراق من آلام وأوضاع كارثية جراء احتلالها العراق، دع عنك القرارات الصادمة المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي لم يجرؤ أسلافه اتخاذها ، ومن أبرزها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، الاعتراف بضم الجولان السوري المحتل لإسرائيل، غض النظر عن الاستيطان ومباركته صراحة أو ضمنياً، الضغط على حليفاتها في الخليج على عقد اتفاقيات تطبيعية، بالإضافة للمغرب والسودان . وبهذا سيظل الشعبان العراقي والفلسطيني من أكبر شعوب العالم الخاسرة من إصلاحات بايدن المرتقبة. وفيما يتعلق بالقصية الفلسطينية تحديداً فإنه من الصعب عليه أمس بمكتسبات جديدة نالتها حليفة بلاده إسرائيل ولو كانت مخالفة للشرعية الدولية. مهما يكن ثمة تحديات كبرى تواجه إصلاحاته الواعدة؛ فالتركة الترامبية ثقيلة، في مقدمتها تخفيف وطأة كارثة " كورونا " التي أستهتر بها سلفه ترامب وأودت بحياة ما يقرب من نصف مليون إنسان في أمريكا، توحيد البلاد الممزقة بين اليمين بقاعدته العريضة المشمولة بالفئات العنصرية بمختلف أنواعها واليسار بمختلف قواه الليبرالية واليسارية الراديكالية المعبرة عن الشرائح الطبقية الدُنيا والسود. والحق فإن ما أفسده الدهر طوال حقبة الإمبريالية، أي منذ قرن من صعود بلاده كدولة رأسمالية عظمى هو أطول بكثير من ولاية ترامب، بما يصعب معه على العطار بيدن إصلاحه بقرارات ترقيعية مالم تكن جذرية بحيث يتم إلزام الطبقة الرأسمالية الحاكمة التخلي عن نزعة الهيمنة والاستئثار داخلياً وخارجياً الرامية لخدمة مصالحها و لاشيء سواها. 

 

عرض مقالات: