ترك النظام الديكتاتوري المقبور، أثارا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ثقيلة على المجتمع العراقي، بسبب حكمه الفاشي وحروبه العبثية وتبعياتها. زاد الطين بلة بعد احتلال العراق في عام 2003، نتيجة السياسات الجاهزة (اللبراليين الجدد) أو ما يسمى (أجماع واشنطن)، التي فرضها الحاكم بريمر وفق اقتصاد السوق - الحر، وإضعاف دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وبمؤازرة ودعم المؤسسات المالية الرأسمالية: صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، مما سببت الى التدهور الكبير في كيان الدولة العراقية ومؤسساتها المتمثلة بسلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية وكذلك السلطة الرابعة، ومن جراء سياسات خاطئة للحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال وحتى اليوم.
اليوم يمر العراق بمرحلة جدا صعبة وغاية في التعقيد وعلى صعد متعددة، وخاصة في الجانب الاقتصادي، الذي يعتبر عصب الحياة عبر الاستخدام العقلاني للموارد الاقتصادية المتاحة من خلال رؤية واستراتيجية واضحة وشفافة ومعللة للتنمية الشاملة المستدامة، يتحقق فيها البعدين الاقتصادي والاجتماعي والمساواة وعدالة توزيع الثروة الوطنية بين طبقات وفئات المجتمع والازدهار والتقدم في البلاد.
ان التفكير في تصحيح المسار الاقتصادي، يبدا، بمعالجة الاختلال الكبير الموجود في ميزان المدفوعات، الذي هو دائما سالب نتيجة زيادة الاستيرادات وإنخفاض ملحوظ في الصادرات، تكاد ان تكون معدوما عدا النفط. انعكست هذه الحالة على الموازنة الاتحادية العامة، وأصبح النفط يساهم بما نسبته 90%) (من إجمالي تمويلها، وعلى 63,7%) ( من الناتج المحلي الجمالي، وبالتالي سيكون رهين تقلبات سعره والطلب عليه في السوق، بدلا من النهوض بالقطاعات الإنتاجية. هذا بالإضافة الى العجز المالي في الموازنة الاتحادية منذ عام 2014 وحتى الآن لتغطية النفقات، مما اضطرت الحكومة اللجوء الى قروض الداخلية والخارجية، بلغت أكثر من (160) مليار دولار، (حسب اللجنة المالية في مجلس النواب)، وتتضمن نسبة فوائد عالية، وذلك لتغطية النفقات التشغيلية، وخاصة الرواتب والمعاشات التقاعدية وضمانات الحماية الاجتماعية والبطاقات التموينية وغيرها، ولم يتبقى منها شيء للنفقات الاستثمارية لاستخدامها في المجالات الإنتاجية وإعادة وبناء البنى التحتية، بهدف إيجاد مصادر متنوعة لإيرادات الموازنة في المدى المنظور والمتوسط.
أن ما جاءت من مقترحات وزارة المالية في الورقة البيضاء في اصلاح السياستين المالية والنقدية لا يصب في مصلحة الفئات المتوسطة والفقيرة، ولا في تفعيل القطاعات الإنتاجية وإعادة بناء المؤسسات الإنتاجية العامة، ولم تعالج مسالة مكافحة الفساد المالي والإداري بشكل فعال وشفاف، والذي أصبح آفة منتشرة في كافة مفاصل مؤسسات الدولة، وخاصة غسيل الأموال منه، من خلال مبيعات البنك المركزي للمصارف، ولا في تخفيف عب مديونية الدولة، التي تؤثر على عدم استقرار سعر صرف الدينار العراقي، وإخضاعه الى سياسة التعويم وتبعياتها، مستندا الى قانون العرض والطلب في سوق النقد الأجنبي، ضمن اقتصاد السوق ـ الحر. وما القرار الاخير الصادر من البنك المركزي في خفض سعر صرف الدينار العراقي ليصبح (1450)دينار/دولار بدلا من السعر السابق (1190) دينار/دولار، أي بنسبة حوالي(22%) مقابل الدولار. ويكون لكل (100) دولار أمريكي يساوي (145) ألف دينار العراقي، الا إحدى تبعيات هذه السياسة، وانعكاساتها السلبية على الحالة المعيشية للمواطنين.
كما هو المعروف حاليا ليس هناك إجماع في أراء بين الاقتصاديين العراقيين حول مسالة تخفيض سعر الدينار العراقي او بقائه على سعره الحالي مقابل الدولار الأمريكي. وتتطلب هذه المسالة دراسة دقيقة قبل الاقدام عليها، لما لذلك من تأثير مباشر على: التضخم، وميزان المدفوعات، والموازنة الاتحادية، وسعر الفائدة، وتأثيره ايضا على الاستهلاك وقرارات الاستثمار، وغيرها، وبوجود قرار مدروس وسليم (من الناحيتين الاقتصادية والمالية) ومتوافق عليه مع (السلطة النقدية) البنك المركزي.
بمعنى اخر، ان الحل الصحيح لهذا الموضوع يبقى دائما مرهونا بمدى وجود تنسيق جيد والادارة العقلانية وبشفافية عالية بين الجهات المختصة (وزارة المالية، وزارة التجارة، وزارة التخطيط والبنك المركزي)، في رسم السياسة المالية والنقدية والاقتصادية في مدى المنظور والمتوسط.
باختصار شديد وبدون الدخول في التفاصيل، ادناه مقارنة سعر الصرف مقابل دولار في حالتين السعر المرتفع والمنخفض للدينار العراقي.
أولا: في حالة السعر المنخفض للدينار
ـ يستفاد منه لتحفيز الصادرات غير النفطية، وهي غير موجودة حاليا، لحمايتها من منافسة المنتوجات الاجنبية المستوردة، اي ذات بعد الاستراتيجي؛
ـ تحفيز السياحة في الداخل، اذ يحصل السائح الاجنبي على دينار أكثر، وتساعده في دفع مصروفات إقامته؛
ـ تشجيع الاستثمار الأجنبي؛
ـ وزارة المالية تحصل على دنانير أكثر من البنك المركزي مقابل تحويل دولارات بيع النفط، تساعد على تغطية جزء من عجز الميزانية في حالة وجوده، كما هو الحال الآن؛
ـ ارتفاع أسعار المستوردات التي تسبب الى التضخم، وانخفاض القوة الشرائية للعملة، مما تضطر الدولة لزيادة الدعم، وخاصة للسلع الاستهلاكية الضرورية منها، التي تمس لقمة العيش للمواطنين، وخاصة الفقراء، وتأثير ذلك على تراجع الطلب العام، ومن ثم الانتاج والتشغيل.
ثانيا: في حالة السعر المرتفع للدينار
ـ يستفاد منه في حالة الاستيرادات للبضائع والمعدات، اذ يحصل على دولار بدنانير أقل، وتأثير ذلك على رخص سعر المستوردات ومنافسة المنتوج المحلي للبضائع المماثلة؛
ـ يستفاد المواطن العراقي في حالة السفر الى الخارج لأغراض السياحية او المعالجة او نفقات الدراسة...الخ؛
ـ للمدخرين بعملة الدولار في البنوك العراقية عند تحويل الدينار الى الدولار وتوديعه في حساب خاص بالدولار والدفع ايضا بالدولار؛
- تشجيع الاستثمار الداخلي.
ختاما، ان الأقدام على تخفيض سعر صرف الدينار العراقي مقابل دولار امريكي في ظل الوضع الاقتصادي المتهالك، وذي الصفة الريعية الاستهلاكية، سيؤثر بلا شك على: ارتفاع معدلات التضخم نتيجة ارتفاع اسعار منتوجات المستوردة، كما وان أسعار النفط لاتزال منخفضة وانعكاس أثارها على الموازنة الاتحادية، وتبعيات نفقات جائحة كورونا، وتفاقم المديونية الداخلية والخارجية، وكذلك على ميزان المدفوعات، مادام ليس لدينا انتاج للتصدير، عدا النفط، هذا وان فوائده ليس ذات تأثير كبير على تخفيف العجز في الموازنة، ولا على الاستثمار الداخلي، بسبب تراجع الاستهلاك وتأثير ذلك على تراجع الطلب العام، بالإضافة الى اشتداد المضاربات المالية والتجارية.
ان تأمين نوع من الاستقرار النسبي لسعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الامريكي، مرهونا بدرجة كبيرة ببعض العوامل الداخلية، منها، كالاتي:
ـ الانتقال التدريجي للاقتصاد العراقي من اقتصاد ريعي كما عليه الآن الى اقتصاد متنوع ذو صفة إنتاجية من خلال إعادة الهيكلية الاقتصادية لصالح القطاعات الإنتاجية، ليكون اقتصادا منتجا للقيمة المضافة؛
ـ تفعيل دور القطاع الخاص من خلال تقديم الحوافز وتأسيس شركات حقيقية؛
ـ توفير بيئة جاذبة ومحفزة للاستثمار؛
ـ دعم الصناعات الوطنية القادرة على التنافس المستوردات منها؛
ـ ضبط سياسة: الاستيراد والتحويل الخارجي وغسيل الأموال والمضاربات التجارية بأنواعها والفساد المالي؛
ـ التحكم بالموارد المالية المتاحة بشكل عقلاني واستخدامها في مجال التنمية الوطنية المستدامة، واعتماد معايير علمية ومنطقية في تبويب وإعداد الموازنة العامة، تستند على قياس كفاءة الأداء والإنتاجية وعلى أساس الأهداف والبرامج الحقيقية.