أول ما يلفت النظر في وضع الاجتماعي في إقليم كردستان، هي الفجوة التي تتسع باضطراد بين قلة اغتنت إلى حد التخمة وأكثرية تعيش أوضاعا مزرية. مظاهر غنى الاقلية المتنفذة في الاقليم صارخة يمكن لك ان تلاحظها دون عناء، حيث لا يمكن اخفاؤها، فأينما تمد البصر تجد الصور الباذخة، فسيارات المتخمين الفارهة تجوب الطرقات، أمام حسرات الشباب العاطلين عن العمل. أما في الريف الذي بدلا من أن تجود أرضه بعطاءات تكفي اسواق كردستان وما زاد منها يفترض تصديره إلى أسواق أخرى، وبدلا من زراعة الأراضي الخصبة المعطاء، اعتلت بعض مناطق ريف كردستان القصور الفارهة والمسابح الخاصة والشلالات المصطنعة، وكأن أفضل الأحياء في المدن لم تعد تكفيهم فامتدوا إلى المزارع وقضموها، وبهذا أكملوا ما بدأ به من سبقوهم عندما جرفوا ريف كردستان. يمكن لك ان تتخيل حال أي شاب محروم حينما يشهد صور الإفراط بالبذخ، التي لو تم حساب ما أنفق على أي جزئية بسيطة مما امتلكه المترفون عليها، لربما تغطي معيشته طول العمر.
الشعور بالحرمان هو محرك فاعل دفع الشباب الى الاحتجاج، وكان الأجدر ان يكون سلميا دون المساس بالممتلكات العامة والخاصة، إلى جانب عوامل مهمة اخرى من بينها فقدان الأمل بالحاضر، وانسداد أفق المستقبل. فلك ان تتصور شابا اسودت الدنيا أمام عينه، لا حاضر يوفر له فرصة عمل ولا مستقبل يؤمن له معيشته. هذه المعاناة التي تعد وقود الانفجار الشعبي، لم يفكر بها أصحاب القرار، ومن فكر أي واحد منهم بها فلم يتعامل معها، أما التوقف عندها للمعالجة فهذا غير متوقع الحصول، والمفارقة أن يظهر البعض على شاشات التلفاز مستغرب ومستهجن من مشاركة الشباب في التظاهرات، كونهم ليسوا من أصحاب الرواتب التي لم تصرف! وكأن سبب الاحتجاج هو عدم صرف الرواتب فقط. كم بعيدون هؤلاء عن فهم جذر المشكلة. يعكس هذا الخواء الفكري وعجزهم من إدراك الأزمة بأبعاده الاجتماعية، وكأن العامل الوحيد للاحتجاجات هي الرواتب. ليس الراتب وحده سبب الاحتجاج، نعم تأخر صرف الرواتب هو الشرارة التي ألهبت النار في الهشيم، لكن هناك عوامل أخرى سبق وذكرتها، في مقدمتها العامل الطبقي. الهوة السحيقة بين من أثرى عبر موقعه المتنفذ في أحزاب السلطة وبين جيوش العاطلين والكادحين والفقراء.
يبدو ليس بيد سلطات الإقليم من تدابير غير قمع المحتجين والقمع يزيد الهوة التي تتسع بين السلطة السياسية وبين عامة الناس. للناس الموجوعة حق التعبير عن مطلبها بشكل سلمي ومدني، ولا تفسير لهذا الحق غير احترام ممارسته وتوفير الأجواء الصحية للتعبير، ودور القوات الأمنية هي حماية المتظاهرين، وليس إطلاق القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي، الحماية وليس القتل.
من جهة اخرى لا بد لي أن أبين التباس العلاقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية. وأود الإشارة هنا الى غياب الاستراتيجية الكردستانية في موضوعة الاشتراك في السلطة السياسية الاتحادية. فهي خليط لموقف غير متجانس، يتلخص كتناقض مخل، يقع ما بين الاشتراك بالحكومة كحق لشعب شريك في الدولة، وبينما يبدو وكأن تمثيل شعب كردستان جزء من محاصصة، كتلك الحاصلة بين مدعي تمثيل الطائفتين الشيعية والسنية.
تتضح الوجهة وكأن الحضور السياسي الكردي في بغداد غير معني ببناء نظام سياسي ديمقراطي يؤسس لدولة المواطنة توفر العيش الكريم للجميع بغض النظر عن الانتماءات القومية والدينية والطائفية، وترسيخ قبول التنوع الإثني كعامل قوة وليس عامل صراع، حيث الكراهية والاحقاد القومية هي السائدة.
ان الاشتراك غير العابئ بما يحدث لتطور الدولة العراقية الاتحادية وتنمية مواردها هو ما نحصد مآسيه اليوم، غير المبالاة وتفرج على ضعفها وهوانها، لم يكن لصالح الاقليم فالدولة الضعيفة لا تتمكن من الايفاء بالتزاماتها. فقد اثبت الواقع عدم قدرة الحكومة الاتحادية الإيفاء بالتزاماتها المالية لمنتسبي الاقليم، فلو كان اشتراكنا فاعلا في بناء دولة القانون ومؤسساته، دولة ذات اقتصاد متنوع ومتين، وبتمثيل فاعل ونشط في مجلس الوزراء، ويمتاز بقدرات سياسية وادارية كفؤة، لما كان قرار عدم صرف مستحقات الاقليم وكأنه قرار من حكومة لا تمثيل للأكراد فيها، حيث لم يحسب لوجودهم حساب. هذا لا يعني عدم تحمل الإقليم مسؤولية الالتزام بتعهداتها المالية كما هو قانون الموازنة الاتحادية، التي وضعت اشتراطات وافق عليها ممثلو اقليم كردستان سواء في مجلس النواب العراقي، أو في مجلس الوزراء الاتحادي، أو من خلال البحث المباشر بين حكومة الاقليم والحكومة الاتحادية.
بكلمة اخرى لا يمكن ان تكون الاوضاع المعيشية لمواطني كردستان رهينة الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كردستان، لأن لقمة عيش الناس فوق كل الاعتبارات ولا يمكن التلاعب به من اي كان.
كشفت الاحتجاجات وجود خلل كبير في الوضع الاجتماعي الكردستاني، فجوة الفقر التي تتسع فجوة العوز والحرمان، والشعور بالمظلومية المجتمعية الى جانب ضعف الثقة بالأحزاب الكردستانية، والرغبة العارمة بمطلب العدالة الاجتماعية. كشفت ايضا الحاجة الماسة لتفعيل دور المعارضة الحقيقية المكافحة من اجل الدفاع عن الناس وحسن تنظيمهم.