تكتسب ظاهرة الانترنيت، ومحركات البحث، وشبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتيوب، سكايب، واتس اب، إنستغرام.. وغيرها من التطبيقات) قدرا عظيما من الاهمية، لما قامت وتقوم به من دور اساسي في تلاقي وتفاعل القيم والثقافات المختلفة والمتنوعة بين البشر، وذلك من خلال قدرتها الفائقة وبوقت قياسي على تعميم وعولمة سيل من المعلومات والصور المباشرة العابرة للأمكنة والتي تعكس ما يجري في العالم من احداث واخبار وتطورات سريعة.

فالشبكة العنكبوتية باعتبارها نافذة مفتوحة على كوكب الارض، قلّصت حدوده الجغرافية، وجعلت منه كوكبا صغيرا مرئيا ومكشوفا، وباستطاعة ايّ كان أن يلجه، بما في ذلك الذين يقيمون في أطراف القرى المعزولة والنائية. وبسبب سهولة الوصول الى هذه الشبكة وفروعها المتعددة، ولأسباب حياتية جوهرية، ينخرط في استخدامها يوميا أكثر من نصف سكان الارض.

هذه الطفرة الالكترونية الهائلة التي نقلت البشرية من عصر قديم الى عصر الثورة المعلوماتية والانفجار المعرفي حيث المعلومات تتدفق بغزارة لا مثيل لها، اضطرت المجتمعات المتقدمة إلى أن تتسابق في مواجهتها وتتعامل معها وتستثمرها لمصلحتها، ليس فقط لأنها مصدر من مصادر انتاج القيم وتشكيل الوعي ووسيلة من وسائل التعلم والتحول، بل ايضا لأنها حولت الفضاء الافتراضي الى سوق اقتصادي وتجاري استثمرته الكثير من الدول بشكل سليم من اجل التنمية وزيادة الانتاج والقضاء على البطالة.

ما دوّنته اعلاه، يُعتبر من المسلمات التي بات يعرفها ويجب ان يعرفها كل من له عينين مفتوحتين، فلم يعد أحد بحاجة الى ان يبحر في التفاصيل لكي يعي حقيقة، انّ تكنولوجيا الانترنيت والتواصل الاجتماعي، حولت الانسان من متلق للمعلومة الى مشارك ومؤثر في صناعتها وتوزيعها ونشرها. لكنّ الذي يصعب استيعابه، هو انّ بعض الجهات المسؤولة، وخاصة في البلدان التي تعاني من الاستبداد والتسلط، ومازالت تنشد الاستقرار والانتقال الى الأفضل، ومنها بلدنا العراق، تعتقد بأنها قادرة ان تصد وتوقف بأساليبها البدائية التقليدية عاصفة التقدم العلمي والتقني التي حطمت الابواب والشبابيك واقتحمت البيوت!

لا شك في انّ هؤلاء الذين مازالوا يتمسكون بوحدانية الخطاب وجهويته، ويشككون، بل يستنكرون التعددية في مصادر المعلومات وتنوعها، لم يسمعوا بعد، انّ مصطلح «المواطن الرقمي»، ومنذ مدة ليست بالقصيرة أصبح متداولا بكثرة، وانّ جيلا جديدا من العراقيين نشأ في عصر التكنولوجيا المتقدّمة والروبوتات والذكاء الاصطناعي، ويستخدم الإنترنيت بشكل منتظم وفعّال، ويدرك تماما زيف الإعلام الرسمي في نقل الحقيقة، ولن يقبل أن يسير في مؤخرة العالم.

هذا المواطن هو ذاته، الذي وقف في ساحة التحرير والحبوبي وغيرهما، رافعا قبضته القوية التي أرعبت القوى المحافظة والمتجبرة واصحاب المصالح والامتيازات الذين يخافون رياح التغيير ويرفضون الابداع والتجديد. وفي محاولة بائسة لإسكات صوته والتصدي لغضبه، قامت حكومتهم السابقة التي كان يترأسها المستقيل عادل عبد المهدي بحجب الشبكة الانترنيتية عنه، فكلفت تلك الحماقة اقتصاد الدولة وخلال عشرة ايام فقط ما يقرب من نصف مليار دولار.

لقد بذلت القوى المتخلفة، ومن خلال قنواتها وخطابها الموجه، الكثير من الجهد في سبيل اقناع الشباب، بأنّ الانترنيت ما هو الاّ نوع من الكماليات الاضافية وليس من أساسيات الحياة اليومية الجوهرية التي لا غنى عنها، لكنهم بعد القفزة الكبيرة التي حققتها التكنلوجيا الحديثة وسيطرتها على حياة الناس العملية والعلمية، راحوا يبحثون عن اساليب أخرى، خاصة بعد ان تبين لهم، بأنّ المواطن العراقي اصبح يدرك حقه في ان يكون مؤثرا في رسم السياسة العامة وصناعة القرارات المهمة التي تتعلق بمصيره ومصير بلده، ويؤمن بقدرته على تغيير وتعديل القوانين التي تغبن حقه في التعبير عن افكاره وهويته، كما وأدرك ايضا، انّ وسائل التواصل الاجتماعي هي آليته ووسيلته الاقوى في الرقابة والتعبئة والضغط والتنديد وكشف الفاسدين والتأشير على ملفات فسادهم وسرقاتهم وتعرية جميع اكاذيبهم وابتذالاتهم!؟.

ذلك هو بالضبط ما أربك حسابات اصحاب النفوذ والثروة، وبدلا من دراسة تجارب البلدان التي استوعبت وتأكدت مبكرا، بأنّ قدرتها وقدرة ايّ دولة على تحقيق التنمية المستدامة، ترتبط ارتباطا وثيقا بمدى استعدادها لأستخدام تكنلوجيا المعلومات بطريقة ذكية ومسؤولة، لجأوا الى اعادة العمل بمشروع القانون القديم الذي واجه انتقادات كثيرة من قبل منظمات المجتمع المدني العراقية والجهات الرقابية المحلية والدولية معتبرة اياه بأنه يعبر عن حالة مأساوية لواقع الحريات في العراق.

ان مشروع قانون جرائم المعلوماتية المطروح امام البرلمان للتصويت عليه واقراره بمواده وفقراته التي يثير غموضها الشك والخوف، ما هو الاّ مظلة قانونية للقمع وتكميم الافواه، وتهديد جدي لحرية التعبير، كما وانه يعيق العمل الصحفي ويمنع الناشطين والاعلاميين والمدونين من الوصول الى المعلومة التي يحتاجها المواطن العراقي. ولهذه الاسباب رفضته جماهير شعبنا واستنكرته منظماته الحقوقية والانسانية التي اعتبرته مشروعا سيئا ويتعارض مع حقوق الانسان الدستورية، كما وصفته المنظمة الانسانية الدولية "هيومن رايتس ووتش"، بأنه بمثابة أداة السلطة لقمع المعارضين. وقالت المنظمة إن "مشروع قانون جرائم تقنية المعلومات يتعارض مع القانون الدولي، ويمكن استخدامه لخنق حرية التعبير، التي تتعرض بالفعل للهجوم في العراق".

عرض مقالات: