كم هو لئيم هذا الفايروس...! لقد اعتدى علينا وأجبرنا على التواصل من خلال العزلة. قد لا تتحدث مع من هو في بيتك من زوجة وأبناء وبنات ولكن تتحدث مع أشخاص في ولايات أو بلدان أخرى. وأهل البيت قد يكونون منشغلين بنفس القصة.
أغلب الناس قد لا يشعرون بعد بأهمية السياق المكاني للحدث. حين تتوجه إلى المطبخ فأن جهازك العصبي سوف يهيئك للطعام. حين تدخل إلى مكتبة فأن السياق يستثير استجابة عصبية مشروطة مرتبطة بمعنى كلمة مكتبة وبتجربتك وذاكرتك وما تعرفه بصورة واعية أو غير واعية عن المكتبة. إذا ما دخلت إلى صالة سينما أو قاعة محاضرات فإن الجهاز العصبي يتفاعل وفقاً للمطلوب. أما حين تقوم شاشة الكمبيوتر بكل تلك الوظائف: سماع، مشاهدة، إعطاء محاضرة، حضور اجتماع رسمي، لقاء صديق، حضور فيلم أو زيارة متحف، قراءة كتاب، أو حضور أمسية شعرية أو حتى ساعة ترفيه بحل كلمات متقاطعة... كلها في مكان واحد قد يكون غرفة معزولة؛ فأن النشاط العصبي تصيبه حالة من الالتباس والخمول. تشعر أنك وحدك عليك مقارعة معضلات الحياة. أما حين تجلس في مقهى حتى لو كنت لوحدك، فأنت لست وحدك كما قال محمود درويش:
مقهى وأنتَ مع الجريدة جالسٌ
لا، لستَ وحدك. نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني..
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرَى إحدى صفات الغيب تلك:
ترى ولكن لا تُرَى..
ستزداد العزلة وتتكلس مفاصلك ويزداد وزنك ويتبلد ذهنك، لأنك مخلوق للحياة وليس للعزلة.
ثم أين موقع لغة الجسد؟ الوجوه البشرية هي مرآة من نوع خاص فيها ترى الماضي والحاضر. للكمبيوتر قدرة محدودة في التعرف على الوجوه. البحوث العصبية بينت أن الطفل الذي عمره سنتان قادر على التعرف على 2000 وجه بشري مختلف. عضلات الوجه قادرة على تكوين مئات الملامح، تتراوح بين الرضا والرفض والألم والاشمئزاز والحيرة والتعجب والحقد والملل والإعجاب والتحفز والاهتمام وعدم الاكتراث وغيرها مما يبدع الروائيون في وصفها. كتب فؤاد التكرلي في (الوجه الآخر): “جذبته بسمة عينيها فسار إليها وجلس قربها على الجرباية ذات الأعمدة الصفراء”. بسمة عينيها هي من جذبه. بينما (محمد شكري) يهرب من الواقع من خلال الوجوه في رواية (وجوه). الرواية التي يحمل غلافها 9 وجوه مختلفة الإيماءات والإشارات. ثم هل من فنان لم يهتم برسم البورتريه...؟ وهل من شك فيما تثيره البورتريهات من مشاعر تفوق كل ما تثيره أجزاء الجسم مجتمعة؟ هل تساءلت لماذا بيعت لوحة “ّراقصة هنديةّ”ّ لـ(جواد سليم) بما يقارب الـ 300 ألف دولار؟ هل تمعنت في وجه الموناليزا أو الفتاة ذات الأقراط لـ(فرمير)؟ أنها الوجوه يا عزيزي، أنها خلاصة ملايين السنين من التطور فكيف يمكن تسليمها إلى كمبيوتر...؟
الدراسات بينت أن الجهاز العصبي يرهق نفسه محاولاً التعرف على مغزى الوجوه على الشاشة. وهذا إضافة إلى الإرهاق الذي يعاني منه ضحايا المنصات. هناك إشارات كثيرة تفقد معناها إضافة إلى تعابير الوجوه؛ مثل لغة الجسد، تموجات الصوت ونظرات العيون.
هل أن عيون الكمبيوتر كانت ستوحي لـ (مائدة نزهت) أن تغني عن (سحر العيون)؟ ثم من يستطيع أن يرتخي وهو يشعر أن هناك من يراقب حركات وجهه ويحصي تجاعيده وقد يكون جمعاً غفيراً من المجتمعين.
دراسة حديثة بينت؛ أنه بعد فترة سيصبح الشخص شكاكاً بأبسط حركات الآخرين، بل حتى أن لحظات الصمت قد يفسرها خطأ. أمام شاشات الكمبيوتر تنهار الثقة بالآخرين، بل تصبح أنت رقماً، لا شخصاً معجوناً من مشاعر ودم ولحم.
أيها الفايروس اللعين، لقد فاقمت الفوارق الطبقية وسرعت في المتغيرات الدولية وألقيت بالعولمة في القمامة وكشفت المستور من أزمة الرأسمالية... والأهم حرمتنا من متعة التمعن في وجوه المحبين والإصغاء إلى تموجات أصواتهم العذبة.. فطوبى لمن لم يزل قادراً على شرب فنجان قهوة مع صديق... وألف لعنة على الخفافيش إلى يوم الدين..

عرض مقالات: