بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما تبعه من تفكك المنظومة الاشتراكية ووصول أثر هذه التغيرات الدراميكية الى منطقتنا مما أثر في انحسار اليسار وضعف تأثير احزابه في الحياة السياسية في المنطقة، شهدت هذه المنطقة موجة من تصاعد دور احزاب الاسلام اليساسي (بشقيه السني والشيعي) في المنطقة، فماذا يعني مصطلح الاسلام السياسي.

يقصد بالاسلام السياسي استخدام الدين في السياسة، فأحزاب الاسلام السياسي هي تلك الاحزاب او الحركات التي تدّعي تبنيها الاسلام منهجا واسلوبا في الحكم، ويطلق بعض المفكرين على هذه الظاهرة اسم (الاصولية)، ويشير الى ان الاصولية هي ظاهرة مركبة ومعقدة فهي تعني تلك الحركة (الاسلامية) التي اعلنت العودة الى (النشوء) انطلاقا من شعارها الاسلامي الكبير (السلف لم يتركوا شيئا للخلف)، وعلى هذا الاساس فأن الاصولية تهّمش التاريخ وتضع الحدث مقابل التاريخ.

ان هذه الاصولية لم تنشأ بوصفها ظاهرة دينية اسلامية اكتسبت دلالاتها من نمو ذاتي فيها فحسب وانما هي اولا نتيجة من نتائج الاخفاق العربي ،الذي تمثل في تفكيك المشاريع العربية سواءا القومية او الاشتراكية او الليبرالية او الاسلاميين الذي سعوا الى ربط الاسلام بالحداثة الاوربية مثل محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وغيرهم ، لذلك نرى ان الأصولية هي فعل من جهة ورد فعل من جهة اخرى ، فهي فعل اراد ان يلتقط الحدث ورد فعل اراد ان يجيب على ما اخفق فيه الاخرون ولهذا يمكن وصف الاصولية بانها (مشروع ازمة) وليس مشروعا للنمو وواضح الفرق بين المشروعين.

لقد اختلفت آراء الباحثين في تحديد الجذور التاريخية والاجتماعية للأصولية الإسلامية، فهناك دراسات تحيل بداية التيار الاصولي الإسلامي الى القرن الثالث عشر ابان فترة الحكم السلجوقي حيث حل الانحطاط الحضاري وسادت الاحادية المذهبية وانعدمت التعددية واقفل باب الاجتهاد، وهناك آراء اعتبرت ظهور الأصولية كرد فعل على الهجمة (الغربية) التي كانت ابعادها مع انهيار الدولة العثمانية وتغلغل الرأسمال والسيطرة الاوربية.

لقد حدث تباين وتداخل بنيتين متصارعتين مختلفتين، بنية تقليدية آفلة لها مفرداتها الاقتصادية والاجتماعية والايدلوجية والتي لم تُختبر الا في جوانب معينة وخاصة في الاقتصاد، وقد عبر عن هذه البنية، الاصوليات الدينية المختلفة، وثمة بنية رأسمالية حديثة تنامت عبر جوانب عدة ولكنها لم تحسم انتصارها الكلي على البنية القديمة.

ان ارتباط النمو الرأسمالي بسيطرة الدولة الشمولية سواء كانت وطنية او تابعة قد اوقف هذا النمو من التطور وعرقله لان الطبقات المسيطرة في تلك الدولة ذات المصلحة بأن لا تكتمل العلمنة لانها (اي العلمنة) مرتبطة بالديمقراطية، وهو ما يتنافى مع تكوينها كما انها لجأت الى استخدام الفكر الديني كقوة سيطرة على الشعب وقوة رفض اية تغييرات تسعى لها الطبقات الاخرى، وتحديدا التغييرات الاشتراكية.

لقد  وجدت الجماعات الاصولية في هذا المناخ المأزوم رأسماليا وحداثيا والعاجز عن خلق الرأسمالية مع ادعائه الانتساب اليها ، القدرة على الادعاء بانها مؤهلة لانقاذ الأمة ، ومن هنا أتت الطروحات المعادية للرأسمالية التي قدمتها الحركة الاصولية في الاربعينات (كتاب سيد قطب - العدالة الاجتماعية) اما الاصولية الحديثة بطابعها العنفي التدميري فقد  اتت على خلفية هزيمة حزيران 1967 التي عبرت عن فشل الحركة القومية في قضيتي فلسطين والحفاظ على ارض الوطن ، وهي تنتمي الى البرجوازية الصغيرة المهمشة  والمخلوعة التي تبحث من خلال الايديولوجية الدينية عن موقع لها في المجتمع ومستندة على الاستياء الشعبي الذي تلقي بمسؤليته على الانظمة الحاكمة سواءً تلك التي يسود فيها الكومبرادور والملاكون الكبار او تلك التي تسود فيها البرجوازية الطفيلية وحتى التي تقوم على رأسمالية الدولة التابعة ،

وفي العراق الذي اقيمت بنيته الاقتصادية الاجتماعية على اسس رأسمالية كان هناك تحديد آخر اضافة الى (الاقتصادي الاجتماعي) ساهم في نمو الحركات الاصولية تمثل في القاعدة الطائفية الضيقة للنظام الدكتاتوري بعد عام 1968 الذي استبعد الاكثرية الشيعية من المشاركة في صنع القرار السياسي  وبالتالي الاقتصادي والاجتماعي مما ادى الى اتجاهها الكثيف الى التنظيمات الشيعية الاصولية منذ اوائل السبعينات والتي استقوت (بعد انتصار الثورة الايرانية في شباط 1979)، اضافة الى التغييب القسري من ساحة العمل للقوى الديمقراطية واليسارية وفي مقدمتهم الشيوعيون من قبل النظام البائد ما ترك قوى الشعب المضطهدة بدون وسائل منظمة للاحتجاج ووّلد فراغا في مجال العمل السياسي سارعت الاحزاب الشيعية الاصولية (الدعوة والمجاهدين) الى ملئه .

اخيرا يمكن القول ان ظهور الاصولية الاسلامية هو حصيلة امور منها:

1/ تفكيك البنية الداخلية للمجتمع العربي

2/ الاخفاق التام للانظمة العربية

3/ ضعف او اضعاف اليسار العربي

سمات خطاب الاسلام السياسي

رغم التباين والاختلافات داخل حركات الاسلام السياسي فان خطابها يكاد يجتمع على نقاط او سمات مشتركة يمكن اجمالها بالنقاط التالية:

1/ اللغة الدينية المتعالية

اذ يستخدم الاسلام السياسي لغة متعالية فوقية شمولية مقارنة بالاديان الاخرى مما جعلها تعيش ازمة حوار مع الآخر مع الاستعداد النفسي للتصادم الفكري مع الآخر وحتى استخدام العنف، وبسبب الصيغة المتعالية في خطاب الاسلام السياسي كان من الطبيعي ان تنتشر لغة غيبية مبنية على المجهول الماورائي من خلال (الاسلام هو الحل) والذي استخدم كأداة دينية من اجل تحقيق مآرب سياسية.

2/ البعد الديني للحل الاسلامي

من خلال اعطاء بُعد ديني لكل مشاكل المجتمع وبالتالي اقحام الدين من خلال المشاريع السياسية يجرد المشروع السياسي من العقلانية والواقعية والمبرر الوحيد لوجود الحل الاسلامي و(افضليته) على غيره من المشاريع هو ادعائه ان مصدره ألهى.

3/ غياب البرنامج

اذ لا يملك التيار الاسلامي برنامجا واضحا ومفصلا لمشكلات المجتمع وهذا ما يلاحظ من ان الحركة الاسلامية تمانع في طرح برنامج اجتماعي ملموس لانها ما ان تطرح برنامجها وتخرجه من العموميات واللبوس الدينية الزائفة وتخرجه الى المستويات الاقتصادية والاجتماعية، حتى يظهر محتواه الرأسمالي الاستغلالي، اما على المستوى السياسي فستظهر الطبيعة الثيوقراطية الاستبدادية في أبشع صورها.

4/ غياب البعد الطبقي الاجتماعي

اذ تسعى تيارات الاسلام السياسي للتمويه على التمايز الطبقي الاجتماعي وبالتالي عرقلة الصراع الطبقي من خلال التركيز على الايمان البسيط وعلى الشعائر بهدف خلق انقسام في المجتمع كأنه بين (مؤمنين) و(كفار) وليس بين مظلومين وظالمين، مستغلين ومستغلين.

5/ عزلة الفكر الاصولي ورفض التعايش مع الثقافات الاخرى

اذ ان خطاب الاسلام السياسي يقوم على رفض كل ما يمت بصلة للحضارة الانسانية وبما أصبح ملكا مشتركا للبشرية جمعاء، فالقومية حسب هذا الخطاب هي مجرد شعوذة والاشتراكية هي زحف للشيوعية الملحدة وشعارات الحداثة والديمقراطية وحقوق الانسان وقضية المرأة ما هي الا شعارات مستوردة الهدف منها ضرب المسلمين في دينهم وثقافتهم وموروثهم وهويتهم وتاريخهم، وقد كرس سيد قطب هذا المفهوم في القطيعة مع العالم في كتابه (جاهلية القرن العشرين).

الاسلام السياسي والديمقراطية

من خلال الاطلاع ودراسة فكر تيارات الاسلام السياسي ومتابعة تطبيقاتها العملية على ارض الواقع فقد تبين انها لا تؤمن اساسا بالديمقراطية ولا بالإعتراف بالآخر ولكنها تتخذ آليات الديمقراطية كوسائل فقط للوصول الى السلطة حين تعجز الوسائل الاخرى ثم بعد ذلك تنقلب على الديمقراطية وعلى حلفائها في العملية السياسية والادلة على ذلك كثيرة مثل آية الله الخميني في ايران ، حركة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان وجماعة الترابي في السودان والاسلاميون في العراق،اذ انهم يؤمنون بمبادئ تكاد تكون مشتركة بينهم وهي تتعارض بل  تتقاطع جوهريا مع الديمقراطية وهي :

1- في مجال التشريع: انهم يرون ان التشريع لله وحده وبالتالي لا يجوز للبرلمان ان يشرّع اي قانون او قرار.

2- الحاكمية: أي (ان الحاكمية لله وليست للشعب) ما يعني ان الشعب ليس مصدر السلطات ولا يمكن ان يكون مصدرا للسلطات.

3- رفض فكرة او مفهوم المواطنة: فالنظام الديمقراطي يؤمن بفكرة المساواة بالمواطنة بصرف النظر عن الجنس او الدين او العرق او الملة، ولكن في المنطوق الفقهي الاسلامي فان غير المسلمين هم (اهل ذمة) وبالتالي لا يجوز مساواتهم بباقي المسلمين، ما يعني انه لا وجود لفكرة المواطنة في الفكر السياسي الاسلامي وانما يوجد مفهوم (الرعايا).

وعلى هذا فان فكرة سيد قطب في الحاكمية تقوم على ثلاثة محاور اساسية هي:

أ- الحاكمية (الحاكمية لله)

ب- الجاهلية (جاهلية المجتمع)

ج- العصبة المؤمنة (وجود الجماعة التي تؤمن بافكار الاسلام السياسي)

عرض مقالات: