ينسف كيفن. ب. أندرسون في كتابه «ماركس ومجتمعات الأطراف» (2010) الذي نقل أخيراً إلى العربية (دار نينوى ــ ترجمة هشام روحانا) الادعاءات العمومية التي اختزلت صورة صاحب «رأس المال» بمفكر المركزية الأوروبية حتى في تطلعاته نحو المجتمعات الأخرى، وذلك بإماطته اللثام عن كتاباته المتأخرة والمجهولة نسبياً، وهي في معظمها تتعلق بنقده للكولونيالية وتشريحه لقضايا التحرر الوطني والعنصرية والعبودية والمساواة الجندرية. تكشف نصوصه الفرعية إذان عن مزاج طليعي في تفكيك العلاقة بين الاقتصاد والأنثروبولوجيا، حين أعاد التفكير بمفاهيمه القديمة المتصلة بالتطور الاجتماعي، «واضعاً المجتمعات الطرفية غير الأوروبية الغربية في مركز اهتمامه، ليوحي بأن هذه المجتمعات قد تقود التحول الثوري».

يسعى الباحث الأميركي هنا إلى إظهار ماركس كمفكر مبدع للقرن الحادي والعشرين، رغم محاولات خصومه دفنه مرة تلو أخرى، ذلك أن طيفه يحوم مجدداً، كلما تعلق الأمر بأمراض الرأسمالية وهزائمها، بصرف النظر عن محاولات ورشات الليبرالية الجديدة والاستشراق إزاحته جانباً بنظريات مختلفة. فقوة الدفع لدى ماركس تتمثل في أنه وضع نظرية في التاريخ متعددة المسارات، لا يمكن اختزالها بإطار واحد. ويشير جاك دريدا إلى أن ماركس احتل موقعاً هامشياً إثر استقراره في لندن، بوصفه لاجئاً سياسياً بقوله: «يبقى ماركس لاجئاً بيننا، ممجداً، مقدساً، ملعوناً، لكن يبقى لاجئاً مغيّباً كما كان طوال حياته». في هذه الفترة، ركز ماركس اشتغالاته الفكرية على النتائج شديدة القسوة للكولونيالية الفرنسية في الجزائر وعلى المقاومة الشرسة التي أبداها العرب والبربر في مواجهة هذا الغزو، مشدداً على الطابع الرأسمالي لهذا الغزو، الذي اقتلع جذور الملكية التشاركية القروية، بخلاف الغزو العثماني. كما سيدرس ماركس مجتمعات مثل الهند وإندونيسيا وروسيا والصين وبولندا وأميركا اللاتينية باعتبارها خرائط هامشية بالنسبة إلى المركزية الأوروبية، لكنه سيعول عليها تدريجاً لاعتقاده بأنه «كلما تغلغلت الحداثة الرأسمالية في روسيا وآسيا مقوّضة الأنظمة ما قبل الرأسمالية لهذه المجتمعات، بزغت مواقع مقاومة جديدة».

اعتمد كيفن أندرسون في تطريز حياة ماركس على نصوصه التحليلية النقدية للمجتمعات غير الغربية، وللإثنية العرقية والقومية، النصوص التي تتفوق أحياناً على ما كتبه حول الاقتصاد السياسي، خصوصاً في ما يتعلق بروسيا والهند والصين، كما حول العِرق والعبودية في أميركا. وإذا به يتجاوز موقعه كمنظر للاقتصاد السياسي، و«بطل الطبقة العاملة الصناعية» نحو «المفكر النقدي للحداثة الرأسمالية، والفيلسوف الديالكتيكي، وعالم اجتماع الاغتراب، والناقد الثقافي». وسينعطف في كتاباته الصحافية من التمسك بأنموذج لتطور أحادي خطيّ ستسير المجتمعات غير الغربية به إلى قراءات أعمق تنطوي على فهم مغاير لواقع هذه البلدان (الكولونيالية البريطانية في الهند)، معتبراً أن الهند المجزّأة «فريسة حتمية للغزاة»، و«حرب الأفيون في الصين»، وروسيا كجغرافيا للنظام الشمولي والحكم المطلق، و«مستنقع العبودية الدموي للمغول» قبل أن يغير من توجهه في تناول روسيا إثر «انتفاضة الأقنان» معولاً على إنتاج ثورة بتأثير الغرب، فيما سيعتبر بولندا «ميزان الحرارة الخارجي للثورة في أوروبا». وربط انعتاق بولندا من قبضة جيرانها الأقوياء، فقط عندما «تحظى الشعوب الأوروبية بالديمقراطية». وسيعتبر في كتاباته الأخيرة ورسائله إلى إنجلز حول بولندا (1867) بأن «بولندا ... الشعب الأوروبي الوحيد الذي حارب ولا يزال يحارب كجندي عالمي للثورة».

عدا إنجازه الجزء الأول من «رأس المال» في ستينيات القرن التاسع عشر، التفت ماركس إلى معالجة «العِرق، الطبقة والعبودية»، معتبراً أن الحرب الأهلية الأميركية (1861- 1865) واحدة من معارك القرن الكبرى في سبيل التحرّر الإنساني. يفصح ماركس بحزم، في سلسلة مقالات، عن ضرورة إلغاء العبودية، بعكس اشتراكيين آخرين. كما سيختلف مع إنجلز في رؤيته لمآلات الحرب الأهلية الأميركية. ولكن ماذا بخصوص رحلة «رأس المال» من لغة إلى أخرى؟ ههنا يتعامل كيفن أندرسون مع هذا الكتاب بوصفه نصاً سردياً تاريخياً عن تكون وعي الطبقة العاملة بذاتها ومقاومتها للحط من إنسانيتها، بالاتكاء على هيغل ومفهوم «نفي النفي»، وصولاً إلى «اتحاد الكائنات البشرية الحرّة والعاملة في ظل ملكية جماعية لوسائل الإنتاج». ستخضع رائعة ماركس هذه إلى تعديلات واضحة من نسخة إلى أخرى، قبل أن تتخذ شكلها النهائي على يد إنجلز في طبعتها الألمانية المعتمدة إلى اليوم. وبصرف النظر عن ثقل المصطلحات الاقتصادية، إلا أننا نلمح وصفاً شعرياً يتسلل إلى سرديات «رأس المال»: «يكاد لا يمكن إيجاد مثيل لهذه الفاجعة في تاريخ التجارة.

لقد اصطبغت سهول الهند ببياض عظام ناسجي القطن التي تغطيها» يقول. هناك أيضاً، نصوص ماركس المتأخرة حول المجتمعات غير الأوروبية وما قبل الرأسمالية، وتشتمل على ملاحظات واقتباسات تنطوي على انعطافة في اهتماماته، والتي اعتبرها بعض نقّاده «حذلقة يتعذر تسويغها»، نظراً إلى تعلقها بقضايا بعيدة عن الاقتصاد السياسي، مثل الجندر والطبقات في مناطق وحضارات مختلفة. وسيرى آخرون أن هذه الملاحظات تظهر ماركس بوصفه «قارئاً» يتحرك نحو آفاق جديدة، إذ يصف الكولونيالية البريطانية بأنها «أقحمت الشكل الأكثر نهباً للرأسمالية، وحولت أشكال ملكية الأراضي الضاربة في القدم إلى ملكية خاصة حصرية في أيدي المرابين والمضاربين». هذا المنظور المتغيّر لما ورد في «البيان الشيوعي» يظهر ماركس ديالكتيكياً أكثر في قضايا العبودية والإثنية والكولونيالية، وتبدّل العلاقات الجندرية. يتساءل كيفن أندرسون أخيراً «ما الذي تستطيع نظرية ماركس الاجتماعية متعددة مسارات التطور، الديالكتيكية والمنفتحة على حضارات متعددة، أن تخبرنا به عن الرأسمالية في عصرنا هذا؟». ويجيب «إنني أعتقد أن كتابات ماركس، سواء لأنها نظرية أم لأنها منهج في البحث والتحليل والكشف، تقدم لمصلحة الحركات الوطنية الأصلانية في وجه العولمة الرأسمالية». نخلص إلى أن علينا ألّا نستغرب رؤية ماركس يتجول في شوارع «وول ستريت» مثل شكسبير آخر في الاقتصاد السياسي!

ــــــــــــــ

*كاتب سوري

“الأخبار” اللبنانية – 24 تشرين الأول 2020

عرض مقالات: