منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة وحتى اليوم، ترجم غضب سكان البصرة من تدهور الوضع في المحافظة إلى تيارين: حلم إقامة دولة أو اقليم، ومحاولة إقامة حكومة محلية لامركزية لإدارة الاقتصاد وتحسين حالة المدينة. تاريخياً، كانت البصرة واحدة من أبرز ثلاث ولايات عثمانية في منطقة ما بين النهرين، إلى جانب ولايتي بغداد والموصل. وسّعت البصرة نفوذها كولاية على مساحات واسعة من الخليج وصلت إلى دولة البحرين الحالية. عقب انهيار الإمبراطورية التركية، سيطرت بريطانيا على كل العراق من خلال احتلال البصرة في العام 1914،  ولكن على الرغم من "الانتداب" الذي أسندته إليهم عصبة الأمم بعد الحرب، كان من الواضح أنه لن يسّلّم إلى سكانه الأصليين. عقب فرض الانتداب البريطاني على الأجزاء المعلنة دولة في العراق، كان وجهاء وأعيان وشيوخ البصرة يطمحون إلى فصل البصرة عن العراق  وإعلانها دولة أو مملكة، أو في حالة فشلها، أن تختار بريطانيا ملكاً عراقياً من بين العائلات البصراوية. ولكن الرد البريطاني على هذا التمرد المبكر كان قمع هذه الطموحات عسكرياً من خلال قصف منازل المتظاهرين البارزين ونفيهم. وفي العام 1928، كررت النخب في البصرة محاولة الحصول على الحق في إنشاء منطقة ذات صلاحيات واسعة داخل دولة العراق. وهذه المرة، حظيت النخب بدعم شعبي، مدعماً بسوء تقديم الخدمات في المحافظة. لكن جهود النخب والسكان فشلت مرة أخرى لأن السلطات في بغداد رفضت هذه المطالب.

ومن النظام الملكي في العراق في العشرينات إلى سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، لم تسمح الظروف السياسية في البصرة بالانفصال، ولا بتأسيس نمط من الحكم الذاتي أو لأي من وجهاء البصرة لتولي السلطة. وقد بدأ اعتماد النظام الاتحادي من قِبل السلطات التي صاغت هيكل الدولة الجديد بعد العام 2003، وامكانية تحويل أي محافظة إلى اقليم في الدستور العراقي. و لسنوات، كانت المناقشات تجري بين بغداد والبصرة والمدن الجنوبية لتنفيذ الانتقال إلى "الفدرالية الجنوبية"، من خلال الاستفادة من تجربة إقليم كردستان.  شهد العام 2008 أول جهود عملية تبذلها البصرة لتصبح إقليما من خلال خطوات قانونية.  ولكن الاستفتاء لم ينجح لأن التصويت لصالح تشكيل اقليم كان أقل من الأغلبية العظمى المطلوبة. و شعر البصراويون أنهم يواجهون قوة رفض قوية في بغداد ذات  العزم على منع إنشاء إقليم ذات مصدر النفط العراقي. على الرغم من هذا الرفض المتزايد، حاول (البصراويون) مجدداً في العام 2010، لكن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تجاهل طلبهم ولم يتلقوا أي رد رسمي. مع ظهور مطاليب بتقسيم البصرة وتقسيمها إلى محافظتين أو أكثر، تكررت الدعوة إلى إنشاء إقليم في العام 2011  وفي أواخر العام 2014، تم إطلاق "الحملة الشعبية لتشكيل إقليم البصرة"، وبعد عدة أشهر نجحت في تلقي جواب رسمي.

ولكن مرة أخرى، رفضت الحكومة الاتحادية الموافقة على طلب الاستفتاء، من خلال إقرار قانون "البصرة، العاصمة الاقتصادية للعراق"، الذي لقي قبولاً إيجابياً من قبل السكان في بعض النواحي. ولذلك، فقد خفت حدة الدعوات إلى تحويل البصرة إلى إقليم خلال تلك الفترة وتراجعت في نهاية المطاف بسبب التصعيد بين بغداد وإقليم كردستان نتيجة لقرار الأخير إجراء استفتاء على الانفصال. مع بداية الاحتجاجات في شهر يوليو/تموز 2018، قدم مجلس حكومة البصرة طلباً مباشراً لإنشاء إقليم. وبعد ذلك بعام، قررت في جلسة خاصة تحويل المحافظة إلى إقليم ، وتعهد "بسجن المسؤولين في بغداد، إذا استمروا في تجاهل مطلب إقامة إقليم في الجنوب". أما بالنسبة للرأي العام في البصرة، فإن فكرة إنشاء المنطقة لا تزال شائعة جداً، كما يتضح من نتائج المسح الذي قمنا به في العام 2019، كجزء من مشروعنا البحثي "محليّة في أزمة: دراسة لأزمة الحكم المحلي والاحتجاجات العامة في البصرة"، اعتبر 43 في المئة من المستطلعين تحويل البصرة إلى إقليم على غرار نموذج كردستان الأمثل، في حين اعتقد 37 في المئة أنه من الأفضل للبصرة أن يكون لديها حكم إداري لا مركزية يتمتع بسلطات أوسع، من دون التحرك نحو تشكيل إقليم. وحصلت فكرة الانضمام إلى إقليم مع المحافظات الجنوبية الأخرى على ستة في المائة من الموافقة، وكذلك تأييد الانفصال عن العراق وإقامة دولة مستقلة.  ويبدو أن نتائج الدراسة تعكس إلى حد كبير كيف يرى السكان مزايا الحكم الإقليمي – كنظام يمكنهم من حل أزمات الخدمات المتراكمة، وأهمها الخدمات الأساسية المهملة.

 ولعل أبرز ما تعكسها هذه النتائج هو أن ما يفتقر إليه السكان في الغالب هو التمثيل الكافي على المستوى المحلي والإدارة التي تمكنهم من إدارة شؤونهم والمحليات.  وعلى الرغم من الميزانية الضخمة التي حصلت عليها إدارات السلطة المحلية في العام الماضي، يبقى السؤال عما إذا كانت مسألة الإدارة السليمة والتمثيل الكافي الذي يطالب به السكان ستحل من خلال الميزانيات وحدها، أو ما إذا كان نظام وهيكل الحكم المحلي في العراق سيظلان العقبة الرئيسية أمام تقدمها.

 *مقتطفات

**عمر الجفال

صحفي وباحث وشاعر عراقي. و حالياً محرر لمجلد عن احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر العراقية التي تمولها منظمة روزا لوكسمبورغ ستيفتونغ (ألمانيا)، وهو باحث رئيسي بالشراكة في مشروع البحث "محليّة في أزمة: دراسة لأزمة الحكم المحلي والاحتجاجات العامة في البصرة" في كلية  الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن، وزميل في منظمة " Solitude  Akadimie Schloss" في شتوتغارت (ألمانيا).  وقد ظهرت كتاباته في "المونيتور"(المراقب) و"آسيا تايمز" و"السفير العربي"، وقد نشر مجموعتين شعريتين. وفي العام 2017، حصل على جائزة مصطفى الحسيني للصحفيين الشباب العرب.

*** صفاء خلف صحفي عراقي وباحث في علم الاجتماع والتحليل السياسي. وحاليا هو باحث رئيسي بالشراكة في مشروع البحث "محليّة في أزمة: دراسة لأزمة الحكم المحلي والاحتجاجات العامة في البصرة" في كلية  الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن. ونشر مؤخرا كتابا بعنوان "العراق بعد "داعش": أزمات الإفراط في التفاؤل". وفي العام 2017، حصل على جائزة  نسيج من الوكالة الفرنسية

عرض مقالات: