أعدم مسلحون ريهام يعقوب في وسط البصرة. وكانت ريهام 30 سنة من العمر وخريجة علوم الرياضة و كانت تدير مركزاً لصحة المرأة واللياقة البدنية في البصرة. ومنذ وفاتها، كثيراً ما وُصفت ريهام بأنها واحدة من أبرز نشطاء الاحتجاج في البصرة. حتى أن مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي يزعم أنه يظهر ريهام وهي تقود المتظاهرين في هتافات خلال المظاهرات الأخيرة في المحافظة. ومع ذلك، هذا الفيديو مزوّر. النساء اللواتي يظهرنهن ليست ريهام والاحتجاج ليس في البصرة. في الواقع، لم تكن ريهام زعيمة احتجاج ولا ناشطة سياسية. كانت قد انسحبت من المشاركة في الاحتجاجات بعد العام 2018، ولم تكن أبداً من منظمي الاحتجاجات الرئيسيين قبل ذلك. فلماذا اغتيلت؟

مؤامرة القنصلية الأمريكية. اتصلت بريهام لأول مرة في صيف العام 2018 . وكان اسمها، مع العديد من الشباب البصراويين الآخرين، قد وقعوا في جدل حول القنصلية الأمريكية في البصرة. كانت نظرية المؤامرة – التي بدأتها وكالة الأنباء الإيرانية (مهر ) – تنتشر في العراق، متهمة مجموعة من الشباب الذين شاركوا في برنامج تبادل القادة الشباب العراقيين (IYLEP)، الذي تموله السفارة الأمريكية في بغداد، بأنهم عملاء في مؤامرة أمريكية لتنظيم احتجاجات عنيفة في البصرة. كان هذا في منتصف أيلول/سبتمبر العام 2018، أي بعد أسبوع تقريباً من اقدام المتظاهرين في البصرة إحراق مبنى القنصلية الإيرانية في المحافظة (إلى جانب العديد من المكاتب التابعة للأحزاب السياسية والجماعات المسلحة العراقية). ولم يكن الشباب من البصرة، الذين اتهمتهم وكالة مهر، عملاء اميركيين. وفي الواقع، لم يشارك معظمهم حتى في الاحتجاجات. أخبرني أحد المستهدفين من قِبل الوكالة، وهو طالب جامعي، كيف استيقظ في أحد الصباحات بوابل من الرسائل الالكترونية على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي: "لقد اتُهمت ببدء كل الاحتجاجات التي وقعت في البصرة، وأنني كنت العقل المدبر الرئيسي لكل الفوضى التي كانت تحدث... وكان من السخرية أن كل هذه الادعاءات كانت كاذبة تماما.  بادئ ذي بدء، كنت أستعد لامتحاناتي، وثانياً، لم أكن أعرف أي شيء عن السياسة ولا أتحدث عنها أو أناقشها! هذا الشاب، وهو مُتَقَدّر، أُجبر على الفرار من البصرة تماماً ولا يزال يقيم في خارج العراق حتى يومنا هذا. فلماذا تم استهدافه؟  قال لي: "يمكن للميليشيات القضاء على الناس، هكذا، لمجرد أنهم أشخاص مختلفون ومنتجون يحاولون إحداث فرق في عالَمهم". وكانت مشاركة ريهام نفسها في الاحتجاجات طفيفة. قالت لي إنها شاركت في بعض المظاهرات في العام 2018 وشجعت بضع عشرات من النساء على الانضمام إلى المسيرات معها. وقد استخدمت وكالة مهر صورة سبق وأن التقطتها ريهام لنفسها مع هؤلاء المتظاهرات، إلى جانب صور تظهر ريهام نشرها برنامج التبادل (IYLEP)، لتمرير مؤامراتهم من خلال ربط الاحتجاجات بريهام و ربط ريهام بالمشاركين الآخرين في برنامج التبادل (IYLEP). وقد التقطت ذلك الجماعات السياسية الموالية لإيران في العراق وجرى تداوله على نطاق واسع. كان من الواضح أن ريهام كانت خائفة: 'لقد تم تهديدي من مصادر مجهولة، وكان هناك تحريض على قتلي. انتشرت صوري في كل مكان". اذ قالت لي ريهام إن اسمها وضع على قائمة رقابة تحتفظ بها قوات الأمن في البصرة. وتمكنت عائلة ريهام في نهاية المطاف من التدخل نيابة عنها وحذف اسمها من القائمة (أو هكذا يبدو). وفي المقابل، انسحبت ريهام من النشاط الاحتجاجي. هذا النوع من المفاوضات كان شائعاً إلى حد ما في البصرة. وعندما يتعرض الناشط للتهديد من قبل جماعة مسلحة، ويندرج اسمه على قائمة الرقابة أو الاغتيال، يكون في بعض الأحيان قادراً على الاعتماد على الشبكات القبلية للتوسط لصالحه. . عائلة ريهام هي جزء من عشيرة الامارة القوية في البصرة (التي تتركز بشكل خاص حول منطقة المداينة  في شمال البصرة)، وعلى الرغم من أنها لم تخبرني صراحة، كان افتراضي أن التدخل العشائري قد امهد مؤقتا على الخلاف.                                                من الذي يُقتل في البصرة ولماذا؟ وعلى الرغم من أن ريهام لم تكن قائدة ناشطة في الاحتجاجات، إلا أن خلفيتها الاجتماعية تتلاءم مع ملامح معظم الناشطين المستهدفين بالاغتيال (تم استهداف ثلاثة نشطاء في البصرة منذ 14 أغسطس/آب وحده، وليس من بينهم ريهام). ويميل هؤلاء الأفراد إلى أن يكونوا أكبر سنّا قليلاً من العديد من الشباب المحتجين (عادة في منتصف العشرينات أو أواخر العشرينات أو الثلاثينات من العمر)، وينحدرون من أسر من الطبقة المتوسطة، ومتعلمون جامعيون وفي وظائف، وهم من الإناث بشكل غير متناسب. [1]. ليست هذه هي الصورة الاجتماعية للشبان الذين انطوت احتجاجاتهم الأخيرة في البصرة على اشتباكات عنيفة مع قوات الامن العراقية وقنابل حارقة ألقيت على سيارات الشرطة وعناصر الشرطة العراقية والمباني الحكومية. ومع ذلك، فإن هؤلاء المتظاهرين، المتورطين في أعمال العنف الفوضوية التي شهدتها البصرة، ولا سيما في صيف العام 2018، ليسوا مستهدفين من قبل الجماعات المسلحة من أجل الاغتيال. لم؟ والسبب هو أن هؤلاء الشباب هم في الغالب من شباب الصدريين من الأحياء الفقيرة في البصرة مثل حي الحسين، وخمسة ميل، والتميمية. وبالتالي، فهم أكثر يأسا من الناحية الاقتصادية وأسهل في الشراء بوعود بالوظائف أو بالمال. [2]. وهذا يعني أنه على الرغم من ميلهم للعنف، فإن هذه المجموعة أكثر قابلية للاحتواء وأقل تهديداً للنظام السياسي. وقد يخدم عنفهم جزئياً مصالح الكتل السياسية التي تريد تصوير حركة الاحتجاج ككل على أنها "فوضوية" ومدمرة. وعلاوة على ذلك، فإن هؤلاء الشباب ينتمون عادة إلى عائلات تشارك في كل من القبائل (بمعنى أن شبكاتهم القبلية أكثر نشاطاً)، ولهم إخوة وأعمام وأبناء عمومة يشاركون في مختلف قوات الحشد الشعبي أو الجماعات المسلحة الأخرى. لا يمكن لـ "عصائب أهل الحق" إرسال القتلة إلى حي "خمسة ميل" لقتل شاب صدري دون حدوث تداعيات. [3] . وعلى النقيض من ذلك، كان الناشطون الذين يتطابق ملفهم الاجتماعي مع ريهام في طليعة المحاولات الرامية إلى توجيه حركة الاحتجاج في البصرة نحو قنوات أكثر سلاماً. كما سعت إلى رفع مطالبها من المطالبات المتعلقة بالمعاملات من أجل الحصول على وظائف أو خدمات محلية أفضل، إلى حركة سياسية أكثر تركيزاً على الدعوات إلى الإصلاح السياسي المنهجي. وهذا الجانب الأخير، ولا سيما الدور المحتمل الذي يمكن أن يلعبوه في تحويل الاحتجاجات إلى برنامج سياسي جديد للتنافس في الانتخابات الوطنية العراقية (المزمع مبدئياً إجراؤها في شهر حزيران/يونيو العام 2021)، هو الذي يجعل هؤلاء النشطاء يشكلون تهديداً. وفي حين أن هذا التهديد يجعلهم مستهدفين  بالعنف، فإنهم يفتقرون أيضاً إلى درع قسري أو ردع. ومن غير المرجح أن تكون لديهم شبكات قوية تربطهم بقوات الحشد الشعبي والجماعات المسلحة الأخرى، ومن المرجح أن تكون أسرهم أقل انخراطاً قبلياً. فعلى سبيل المثال، قال والد ريهام، وهو نقيب متقاعد في القوة البحرية، لوسائل الإعلام المحلية عقب مقتل ابنته، إنه لا يريد الانتقام، لكن العدالة التي وعدها له رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي شخصياً - عدالة الدولة العراقية. لماذا قتلوا ريهام؟ لم تكن ريهام منظماً سياسياً. فلماذا قتلت؟ وبالنسبة للجماعات المسلحة العراقية، ورعاتها في جهاز الاستخبارات الإيراني، كان سببًا كافياً لكون ريهام صوتًا نسائيًا بارزًا في نشاط المجتمع المدني المحلي. وليس النشاط السياسي وحده هو الذي يهدد هذه الجماعات. كما أنهم، الميليشيات، لا يستطيعون أن يتسامحوا مع الشباب العراقي المصمم على رفض نظام العنف والفساد، وعلى السعي إلى خلق أسلوب حياة لأنفسهم بعيداً عن متناول الميليشيات. ومع ذلك، تجدر الإشارة أيضا إلى أن ريهام انحدرت من بيئة اجتماعية مماثلة إلى منظمي الاحتجاجات الأكثر نشاطا من الناحية السياسية. وبالتالي، فإن قتلها يبعث برسالة مؤثرة إلى هذه المجموعة، تحذيرًا من أن أي شخص يكتسب مكانة بارزة ويصبح رمزًا يمكن تنظيم المقاومة حوله، يخاطر بالاغتيال. وهذه رسالة صارخة قبل الانتخابات المزمع إجراؤها في شهر حزيران/يونيو القادم. العديد من النشطاء الذين ربما كانوا يمهدون الطريق للخطوات السياسية الأولى للحركة الاحتجاجية قد اختفوا عن الأنظار الآن. كما يذكّر مقتل ريهام النشطاء بأن الجماعات المسلحة لديها ذاكرات طويلة الأمد، وأنه بمجرد أن يُدرج اسمك في القائمة، لا يمكن إزالته حقاً، ويمكن أن يأتي الموت في أي لحظة. وأخيراً، كان من الواضح أن توقيت اغتيال ريهام تزامن مع زيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى الولايات المتحدة  الأمريكية لمناقشة مستقبل العلاقات الأمريكية - العراقية. وربطت تفاعلاتها السطحية والمفتعلة إلى حد كبير مع القنصلية الأمريكية رواية الاغتيال من منظور أولئك الذين يسعون إلى تقويض العلاقات الأمريكية - العراقية.  وهذا يشير بقوة إلى تورط مباشر من جانب «الحرس الثوري الإيراني». وبهذا المعنى، وعلى غرار اغتيال هشام الهاشمي في بغداد في شهر تموز/يوليو المنصرم، يبدو اغتيال ريهام تحدياً شخصياً لرئيس الوزراء العراقي وسلطته. ويبدو أن رئيس الوزراء توصل إلى نفس الاستنتاج، حيث عاد من الولايات المتحدة وتوجه مباشرة إلى البصرة للإشراف على استجابة جهاز الأمن في المحافظة لعمليات القتل الأخيرة. كما زار الكاظمي عائلة ريهام حيث وعدهم بالعدالة التي يشك الكثيرون في أنه يستطيع تحقيقها.

برنامج أبحاث الصراعات – مشروع العراق "بعد الانتفاضة: استراتيجيات ما بعد التعبئة في جنوب العراق"، بقيادة المحقق الرئيسي بينيديكت روبن-دي كروز، يستكشف الخيارات التكتيكية والمناقشات الاستراتيجية الواسعة بين مختلف مجموعات الاحتجاج في المنطقة.

[1] غير متناسب عند النظر إلى حجم مشاركة المرأة في حركة احتجاج البصرة.

 [2] وفي إحدى الحالات الأخيرة، تم اعتقال شاب نشط في احتجاجات البصرة أثناء مظاهرة عنيفة. التقى المحافظ أسعد العيداني مع الشاب في تسجيل متلفز في مركز شرطة البصرة. وذكّر الشاب بأنه حصل في السابق على وظائف له وللبعض من أصدقائه الذين كانوا يحتجون في وقت سابق من هذا العام. ومع ذلك، كشف الشاب أنه باع الوظيفة نقداً من أجل شراء سيارة أجرة. وفي النهاية، أُطلق سراح المتظاهر الشاب وتعهد العيداني ببناء منزل جديد لأسرته. وتم تصوير الشاب في وقت لاحق وهو يعود إلى منزله مع عائلته وهو يشيد بكرم العيداني.

 [3] تجدر الإشارة هنا إلى الحادث الذي وقع في ميسان عقب اندلاع الاحتجاجات في أكتوبر/تشرين الأول العام 2019، حيث فتح رجال ميليشيات عصائب أهل الحق النار على متظاهرين في أحد مكاتبهم، إلا أنه تعرض لإطلاق نار مباشر من الجماعات شبه العسكرية الصدرية، مما أدى إلى مقتل شخص واحد وإصابة عدة مسلحين من جيش أهل الحق.

* حصل بينديكت روبن- د كروز على شهادة الدكتوراه من جامعة أدنبره، وهو متخصص في السياسة العراقية، والحركة الصدرية في العراق، والحركات الإسلامية الشيعية، والسياسة الاحتجاجية في العراق. وهو أيضا زميل زائر في مركز الشرق الأوسط في كلية  الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن، حيث يجري أبحاثا حول سياسات الاحتجاج في البصرة من برنامج أبحاث الصراعات في المركز.

عرض مقالات: