تمثل انتفاضة تشرين الترجمة العملية لمسارات الصراع الطبقي والفرز الاجتماعي في العراق الآخذ بالتزايد بعد 2003.اي بعد حدوث الاحتلال الامريكي للعراق وتسليمه السلطة للإسلام السياسي والذي تم وفق إستراتيجية امبريالية مدروسة هدفها منع قيام دولة ديمقراطية في العراق لعدة اهداف منها تلبية رغبات دول الجوار الرجعية. ومنها جعل القضية العراقية ورقة مساومة تبتز بها دول المنطقة عموما. وقد تجلى ذلك المسعى بحل الجيش العراقي بعد الاحتلال مباشرة وتشريع دستور (دولة المكونات ونظام الحكم البرلماني وما سمي بالديمقراطية التوافقية) والذي تم على عجل وصار هو السبب الأساسي الذيأنتجالمحاصصة فيما بعد.

وكانت نتيجة هذا الشكل المشوه للدولة هي الفوضى الاجتماعية والتناحر الاجتماعي وتمزق اللحمة الوطنية وبروز الطائفية السياسية والاجتماعية وافرازاتها المتنوعة (الميليشيات المسلحة وانتشارا لسلاح في الشارع) والفساد المالي والاداري ونهب الثروة الاجتماعية وظهور (طبقة اجتماعية) بيروقراطية طفيلية رثة وعميلة. اضافة الى تراجع مفهوم المواطنة لصالح   الولاءات الفرعية.

فخلال مرور قرابة العقدين من الزمن دخل الى خزينة العراق أكثر من ترليون دولار من مبيعات النفط.ولكن لم يظهر لها أيأثر يذكر على حياة كادحي وفقراء العراق ومثقفيه.

بل زاد وضعهم سوءا الأمر الذي حفز الملايين من كادحي الشعب العراقي الى رفع اصواتهم للمطالبة بالعدالة الاجتماعية وبوجوب اقامة دولة المواطنة الديمقراطية.

ولذلك لم تكن انتفاضة تشرين عملا احتجاجيا وسياسيا مفاجئا. بل حراكا شعبيا متواصلا بدأ منذ عام 2008وبرز بشكل واضح في عام 2011 واستمر بالنمو والتطور حتى بلغ مدياته في الأولمن اكتوبر 2019. فكانت انتفاضة تشرين السلمية والتي كانت أطول وأعمق انتفاضة شعبية نقيةوعفوية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921. والتي قلبت موازين الوعي في الشارع العراقي لصالح الاصلاح والدولة المدنية الحديثة. وذلك بصمودها المنقطع النظير اتجاه العنف الذي واجهته من قبل سراق قوت الشعب، فقد واجهت قطعان الهمجية والتخلف من ميليشيات مسلحة وأجهزة السلطة الطائفية بشجاعة نادرة وقدمت قرابة 700 شهيد وأكثر من 27 ألف جريح ومعوق ومفقود ومختطف.وافرزت وعيا طبقيا واجتماعيا تجاوز حدود العراق، وامتد حتى الى بعض الدول المحيطة به كإيران ولبنان.وبذلك منحها العالم صفة ايقونة الشرق الأوسط، لكن رغم هذا الشموخ فالانتفاضة ما زالت في خطر وتعاني من عيوب بنيوية تحتاج لعلاج سريع لا يقبل التأجيل.

ترى ما هي هذه العيوب؟

اولا –   لم تستطع الانتفاضة ان تتحول الى كتلةاجتماعية سياسية ثورية متراصةوموحدة ولديها برنامجان اجتماعي وسياسي واضحان ومحددان.

لم تمتلك قيادة واحدة لديها ستراتيجية واضحة وتستطيع ادارة الصراع من خلال تكتيكات تتلاءم مع متطلبات الظروف السياسية المتحركة.

إلا أن كل الذي انجزته الانتفاضةخلال شهور عمرها الستة هو مجرد تنسيقيات هشة ذات نفس مناطقي على الأغلب ونهج سياسي وفكري مترددومتناقض احيانا.

ثانيا – انها بالغت في طرح مفهوم العفوية والحياد ومعاداة الحياة الحزبية   والاحزاب السياسية بشكل عام. ولعل أخطر هفوة وقعت فيها نتيجة هذا النهج الفكري هي (وضع كل الاحزاب السياسية في سلة واحدة).متناسية ان هناك احزابا سياسية ظهرت قبل هذه الانتفاضة بعقود من الزمن وناضلت من اجل نفس الاهداف التي تناضل هي الآن من اجلها. وقدمت قوافل من الشهداء من اجل انجاز تلك الاهداف.

وانصافا للحقيقة التاريخية فان الحزب الشيوعي العراقي يكاد ان يكون هو الحزب الوحيد الذي رفع راية النضال الضاري من اجل تلك الاهداف منذ ثلاثينات القرن العشرين وما زال، كونه حزبا للعمال والفلاحين والكادحين والشبيبة المتعلمة. وقد شهد له التاريخ والعدو قبل الصديق بهذه الميزة.

ان تشكيل الحزب السياسي يا سادة ليس هدفا بحد ذاته بل هو آلية لتنفيذ برنامج وتحقيق هدف ليس إلا.. فما بالك بالحزب الذي يمتلك نظرية علمية ويسترشد بتجارب الشعوب الثورية ويجعل من نفسه دائما درعا متصديا للهجوم الرجعي على قوت الفقراء والكادحين والعابثين بالعدالة الاجتماعية.  ألا يستحق هذا الحزب الثناء والاحتضان والدعم من شرفاء الشعب العراقي ومن كادحيه خصوصا؟

لقد علمنا التاريخ وتجارب الشعوب المناضلة ان من يعادي قوى اليسار والديمقراطية ويخلط ويساوي بين اليسار واليمين وبين العلمي وغير العلمي وبين المنظم وغير المنظم انما هو واهم جدا.

فالثورة الكوبية لم تنجح ولم تصمد الا بعد ان احتضنها الحزب الشيوعي الكوبي.

والثورة الفيتنامية بقيادة (الفيت كونك) لم تستطع ان تهزم الامبريالية الامريكية الا بعد اندماجها بحزب العمال الفيتنامي.

وجبهة التحرير الجزائرية لم تنتصر الا بعد أن رمى الحزب الشيوعي الفرنسي وكل قوى اليسار في العالم   كامل ثقلهم من اجل نصرة الثورة.

كما يجب أن نعترف أمام التاريخ أنتعثر نضال الشعب الفلسطيني البطل كان بسبب مواقف منظمة التحرير الفلسطينية وخاصة منظمة فتح عندما مسكت العصا من الوسط وساوت بين اليمين العربي الرجعي وبين اليسار الفلسطيني والعربي.والامثلة تطول ولكن تبقى حقيقة واحدة غير قابلة للنقاش هي (ان اليسار نصير الشعوب والمهمشين كونه يمتلك ايديولوجية ونظريةعلميةمنجهة وخبرة نضالية على المستوى العالمي من جهة اخرى).

ثالثا – تواجه الانتفاضة عدوا شرسا هذه الايام   يمتلك ادوات تخريب لا حصر لها، فبالإضافة للقمع والقتل الذي تمارسه السلطة واذنابها هناك اساليب أكثر خطورة من هذا الاسلوب منها:

أ-الحرب النفسية واشاعة الياس والخوف داخل المنتفضين

ب - زرع روح الفرقة بين المنتفضين

 مرة على اساس المناطقية ومرة على أساس المذهبية ومرة على اساس الزعاماتية ومرة على اساس تجزئة المطالب. ومرة على تقزيم الانتفاضة وتحويلها لمجرد مطالب نفعية وتوظيفية ظرفية.والعمل بكل قوة ومكر لإبعادها عن ذراعها السياسي وتوجهاتها الديمقراطيةوالحداثوية..

ولعل من أخطر الاسلحة التي قد تدمر الانتفاضة هو اسلوب شراء ذمم   ضعفاء النفوس من السذج الطامحين للشهرة والمال المتواجدين ضمن جمهور الانتفاضة.كذلك من الاساليب القذرة الاخرى هو اسلوب دس عناصر مشبوهة داخل جسم الانتفاضة لتؤدي ادوارا تخريبية مدروسة لا تمت لهدف الانتفاضة بصلة كالاعتداء على الممتلكات العامة والاعراف الاجتماعية وغير ذلك.

ولعلوهذا هو أخطر ما يمكن ان يحدث مستقبلا وهو تجزئة الانتفاضة الى احزاب سياسية عديدة تنوي دخول الانتخابات البرلمانية اما بدوافع ذاتية أو بدفع من جهات مشبوهة.وإذا حدث ذلك فلنقرأ السلام على الانتفاضة، ذلك ان احزاب السلطة ومافيات المال والفساد واحزاب الاسلام السياسي ستبتلعها حتما وتستعملها (كارت عبور) الى ضفة السلطة من خلال استثمار سمعتها النضالية ثم تنقلب عليها بعدذلك.

لذلك حذاري ثم حذاري من الوقوع في هذا الفخ.

ولغرض تحاشيه لدي مقترحان:

الاول: هو السعي للتحالف مع القوى الديمقراطية واليسارية في قائمة انتخابية واحدة وهو المفضل لدى كل الوطنيين من اصحاب الخبرة السياسية.لكونهالاكثرضمانافيمسيرة تحقيق النصر.  

والثاني:  ان تؤسس الانتفاضة حزبا سياسيا واحدا خاصابها يكون جامعا لكل فصائلها لكي تدخلبه الانتخابات بشكلمستقل وفق برنامج سياسي واجتماعي تقدميوديمقراطي محدد..

وبذلك تستطيع قطع الطريق على ديماغوجية الاسلام السياسي ومافياته المتنوعة.

عرض مقالات: