تحل في أواخر شهر أيلول الجاري الذكرى العشرون لاندلاع الانتفاضة الكبرى التي عرفت باسم “انتفاضة الأقصى”، ومثّلت فصلاً من فصول نضال طويل، متعدد الأشكال، خاضه الشعب الفلسطيني منذ مطلع القرن العشرين كي يتمتع بحقه في تقرير مصيره على أرض وطنه. وفضلاً عن هذه الانتفاضة، شهدت الأرض الفلسطينية حدثين ثوريين بارزين، تواصلا كذلك على مدى سنوات، وهما: الإضراب العام والثورة المسلحة في فلسطين التاريخية في ثلاثينيات القرن العشرين ضد سلطات الانتداب البريطاني، والانتفاضة الشعبية التي اندلعت في كانون الأول1987 في الضفة الغربية وقطاع غزة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وعُرفت باسم”انتفاضة الحرية والاستقلال”. (المقال يتوقف عند خصائص هذه الأحداث الثورية الثلاثة، وقد ارتأينا أن نقتطف ما كتب حول انتفاضة الأقصى – “طريق الشعب”).

انتفاضة الأقصى” تعبّر عن خيبة الأمل في اتفاقيات السلام

بعد سبعة أعوام على “المصافحة التاريخية” في البيت الأبيض بين ياسر عرفات وإسحاق رابين، تبيّن أن السلطة الفلسطينية لم تسيطر على أكثر من خمس مساحة الضفة الغربية وعلى ثلثي مساحة قطاع غزة تقريباً، وبأن الانسحاب من 22 في المئة من أرض فلسطين التاريخية - أي مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة -، يخضع، في نظر حكام إسرائيل، للتفاوض وليس للتنفيذ، كما هو الحال بالنسبة لبنود قرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في حزيران 1967. وفضلاً عن ذلك، تواصلت عمليات مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتوسيعها وتهويد القدس، وازداد عدد الفلسطينيين الذين يعانون من الفقر والبطالة عما كانوا عليه. فكان من الطبيعي أن تندلع الانتفاضة في أواخر أيلول 2000، خصوصاً بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في تموز 2000، بين ياسر عرفات وايهود باراك، في التوصل إلى حلول لقضايا الوضع النهائي.
لقد كانت الانتفاضة الثانية، التي أشعلها قيام زعيم حزب “الليكود” آنذاك أرييل شارون بدخول ساحة المسجد الأقصى، تعبيراً “عن تراكم ضيق الجمهور الفلسطيني إلى أن بلغ ذروة الانفجار، وقناعته بأن التفاوض من دون ممارسة الضغط لن يجدي نفعاً”. ومنذ أسابيعها الأولى، نشأ جدل بين القوى الفلسطينية المنخرطة فيها حول الاحتفاظ بطابعها الشعبي أو توجيهها نحو النشاطات المسلحة، وبين حصرها داخل حدود الأراضي المحتلة سنة 1967 أو مدها إلى مناطق 48 داخل “الخط الأخضر”، وخصوصاً عقب انتقال المواجهات إلى داخل هذا الخط واستشهاد 13 فلسطينياً في البلدات العربية في إسرائيل. كما نشأ جدل حول طبيعة أهداف الانتفاضة السياسية، إذ انقسمت القوى الفلسطينية إلى سلطة وطنية، وجدت في الانتفاضة وسيلة لتحسين شروط التفاوض، وقوى وطنية علمانية، رأت فيها وسيلة لتحقيق هدف الاستقلال، وقوى دينية، وجدت فيها طريقاً إلى طرح خطها السياسي القائم على تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني ...
وقد أثار طغيان الطابع العسكري على انتفاضة الأقصى جدلاً واسعاً في الأوساط الفلسطينية. وقام بعض الباحثين الفلسطينيين بالمقارنة بين الانتفاضة الأولى، التي تميّزت بطابعها السلمي والشعبي، وبين الانتفاضة الثانية، فرأت الأستاذة في جامعة بير زيت، إصلاح جاد، أن الانتفاضة الثانية عانت من غياب المشاركة الجماهيرية، التي اقتصرت على أشكال رمزية كالمشاركة في جنازات الشهداء، وذلك نتيجة ضعف الأحزاب والتنظيمات السياسية التي كانت تحتضن منظمات العمل الجماهيري وانتقال عدد من كوادر هذه الأحزاب للعمل في المنظمات غير الحكومية، الأمر الذي أدّى إلى “تراجع كبير في خطاب وثقافة التيار الوطني الديمقراطي العلماني”، وسمح للحركات السياسية الدينية “بكسب شرعية إضافية وتنظيم نسبة مهمة من الجمهور”، وذلك عن طريق السيطرة بالانتخابات على عدة مجالس طلابية أو نقابات مهنية، وكذلك عن طريق التصدي للاحتلال بالعمل العسكري، واللجوء “إلى العمليات التفجيرية الاستشهادية”، التي صارت تشارك فيها قوى من حركة “فتح”، وخصوصاً بعد لجوء قوات الاحتلال، في إطار إجراءاتها القمعية، إلى سياسة الاغتيالات المباشرة، التي أسفرت عن استشهاد قادة كبار من جميع القوى الوطنية والإسلامية، كان من أبرزهم أبو علي مصطفى، والشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي.
ومنذ سنة 2002، صارت إدارة الرئيس جورج بوش الابن، التي اتهمت رئيس السلطة الفلسطينية بتشجيع “الإرهاب”، تركّز على مطلب الإصلاح بوصفه وسيلة لإقصاء ياسر عرفات عن قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، بينما رأت حكومة شارون في هذا المطلب مدخلاً إلى إضعاف السلطة الفلسطينية برمتها، خصوصاً بعد أن قامت قواتها باجتياح المدن الفلسطينية التي خضعت لسيطرة السلطة الفلسطينية، وفرضت على رئيسها الحصار في مقره في مدينة رام الله. وبعد رحيل ياسر عرفات في 11 تشرين الثاني 2004 في ظروف غامضة، برزت أفكار تعتبر أن زمن “الشرعية التاريخية” قد انتهى، وتعالت الدعوات إلى اعتماد الانتخابات كمصدر رئيسي للشرعية السياسية.
وجرت الانتخابات الرئاسية بالفعل في 9 كانون الثاني 2005، وحصل فيها مرشح حركة “فتح”، محمود عباس، على نحو 63 في المئة من الأصوات. وفي برنامجه الانتخابي، أكد الرئيس الجديد الحاجة إلى إصلاح النظام السياسي على أساس تفعيل دور المؤسسات، وإطلاق العملية الديمقراطية، ودعا إلى وقف عسكرة الانتفاضة وإعادة إحياء المفاوضات، باعتبار ذلك هو “الطريق الوحيد” للتوصل إلى حل سياسي يضمن حقوق الشعب الفلسطيني ويساهم في تغيير صورته في نظر الرأي العام الدولي، ويوفر الدعم المادي له، ونجح، في شباط من ذلك العام، في التوصل إلى “هدنة” مع إسرائيل في قمة شرم الشيخ. وبذلك، فقدت الانتفاضة الأساس الموضوعي الذي يسمح لها بالاستمرار، وراحت جذوتها تنطفئ شيئاً فشيئاً.

هل الشروط مهيأة لاندلاع انتفاضة ثالثة؟

يدور الحديث كثيراً هذه الأيام، في الأوساط الفلسطينية، عن ضرورة الإعداد لانتفاضة شعبية ثالثة، “تقلب الطاولة”، كما يقال، في وجه إدارة دونالد ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو والحكام العرب السائرين على طريق تطبيع علاقاتهم مع إسرائيل؛ فهل الشروط مهيأة لاندلاع مثل هذه الانتفاضة؟.
في دراسة نشرها معهد “كارنيغي لسلام الشرق”، في 8 شباط 2018، حول احتمالات اندلاع انتفاضة ثالثة، أعدها الباحث في المعهد مايكل يونغ، واستندت إلى رؤية كبار باحثي المعهد، خلصت الدراسة إلى أن انغلاق آفاق ونافذة الحل “على أساس حل الدولتين وفق المعايير الدولية”، وحالة الإحباط المتفشية بين الفلسطينيين، وتفاقم الأوضاع المعيشية والإنسانية، ترجح احتمال انفجار انتفاضة ثالثة، وإن كان من المحتمل أن تتخذ أشكالاً تختلف عن الانتفاضة الشعبية سنة 1987 أو “انتفاضة الاقصى” التي اتخذت طابعاً مسلحاً.
وبحسب علي الجرباوي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت وأحد المشاركين في هذه الدراسة، فإنه “من المستبعد أن يتكرّر حدوث انتفاضة شعبية كتلك التي اندلعت سنة 1987، فقد تبدّلت الظروف تماماً جرّاء اتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، وبفعل ذلك فقد أصبح الاحتلال مخفيّاً وغير مرئي بدرجة كبيرة بالنسبة للفلسطينيين المحصورين داخل مناطق سكنهم في ما أصبح يُعرف بالمنطقتَين (أ) و(ب)، وهذا أدّى لأن لا يكون هناك احتكاك يومي مباشر بينهم وبين قوات الاحتلال، إلا عند الحواجز المنتشرة على مداخل هذه المناطق السكنية، وعلى شبكة الطرقات الرئيسة”.
ويضيف الجرباوي أنه “لا توجد إمكانية لاندلاع انتفاضة بأي شكل من الأشكال، إن لم تكن شريحة كبيرة من الفلسطينيين على قناعة بجدواها الإيجابية”، وأن الانتفاضة القادمة قد تكون “على هيئة احتجاجات شعبية سلمية واسعة ومستمرة في مراكز المدن الفلسطينية، تطالب بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي المديد، على أمل أن يجذب ذلك انتباه وتدخّل المجتمع الدولي”.
(
مقتطفات)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موقع الحزب الشيوعي الفلسطيني – 28 أيلول 2020