كان العراق ومازال اكثر بلدان العالم تضررا من ارهاب داعش الذي تجول الآلاف من عناصره في المناطق الجبلية والصحراوية. وقد حذر العديد من المختصين بمكافحة الارهاب من ان الحلول العسكرية ضرورية ولكنها ليست الطريق الوحيد، وأكدوا الحاجة الى معالجات أخرى منها التصدي للفساد الاداري والمالي المستشري في العراق بسبب تداخله مع قنوات تمويل الإرهاب وغسيل الأموال الى الحد الذي يرى البعض ان القضاء النهائي على داعش سيتم عبر حرب ضروس في المصارف والمؤسسات المالية، وبهدف تجميد ومصادرة الاموال المنقولة وغير المنقولة للفاسدين وعصابات الجريمة المنظمة.
ومن المعروف جيدا ان العراق قد احتل مرتبة متقدمة في لائحة الدول الأكثر فسادا في العالم منذ عام 2003 . ومع ان الفساد ظاهرة عالمية الاّ انها اكثر استفحالا في العراق ووصلت الى مديات غير مسبوقة بسبب تفشيه نتيجة انتهاك القوانين والانظمة المالية التي تحكم سير النشاط الاداري والمالي في الدولة ومؤسساتها والقصور في تفعيلها وتطبيقها لمحاربة ومعاقبة الفاسدين. وايضا وجود حماية سياسية تمنع اعتقالهم ومقاضاتهم كونهم شركاء في إيجاد مصادر تمويل لنشاطاتها وميليشياتها المسلحة، مما أدى الى عجز الجهات المعنية عن ملاحقتها، وآخرها اللجنة العليا لمكافحة الفساد التي تشكلت في فترة حكومة عادل عبد المهدي. وهذا ما يميز الفساد بعد ٢٠٠٣، حيث رعته وحمته عدد من النخب السياسية والاحزاب التي تسلمت السلطة بعد الاحتلال الأمريكي.
ولست هنا بمعرض الدخول في القضايا المثيرة للجدل كتعريف الارهاب ومصادره واسباب نزوع الشباب الى التطرف الديني ودور التكنولوجيا الرقمية في جهاز اعلام داعش كأداة تنظيم وتجنيد واتصال وتواصل. ولكن هناك تشخيص متفق عليه وهو ان داعش، كي تستطيع ان تعيش وتنمو، بحاجة الى مصادر مالية ضخمة لضمان استمرار قدراتها التسليحية وتمويل عناصرها وتوفير سبل النقل والمواصلات ودعم عوائلها وامتداداتها في العراق وسورية وتسهيل حرية تنقلها داخل وخارج العراق وتوفير اماكن سرية للتخفي. ووجدت ضالتها في تفشي الفساد والدولة العميقة التي تقوض من هيبة ومكانة الدولة و بأسماء وتوصيفات متعددة حزبية اوميلشياتية وتنسج خيوطا مع شبكات الجريمة المنظمة. والهدف المشترك هو سرقة اموال الشعب العراقي مستفيدة من ضعف المؤسسات والتشكيلات العسكرية والأمنية المختلفة بسبب تعدد مراكز القرار فيها وخضوعها في العديد من الاحيان لقرارات سياسية، وأيضا ضعف العقيدة العسكرية المهنية والثقل الواضح للمافيات والعصابات التي جعلت كل مرفق من مرافق الدولة مصدرا للارتزاق وتكديس أرباح من تجارة الكحول والمخدرات وبيع الاعضاء والإتجار بالبشر وتهريب النفط والاثار. وطورت اشكالاً مصرفية وتجارية لغسل الاموال مستفيدة ايضا من نافذة بيع العملة في البنك المركزي العراقي وكازينوهات القمار ومشاريع تجارية كالفنادق والمطاعم والمولات.
وقد أدى الغضب الشعبي من الفساد المتفشي في العراق الى تحريك الشارع الذي خرج فيه الآلاف من العراقيين يطالبون بمكافحة الفساد، خاصة بعد فشل اللجان المشكلة من قبل رؤساء الوزراء منذ ٢٠٠٣. وهنا لابد من الاشارة الى ان قرار حكومة الكاظمي يختلف نوعيا عن سابقاته اذ ربط مكافحة الارهاب بالتصدي للفساد، وهو ينسجم مع السياقات الدولية. ولكن تبقى هناك أهمية فائقة لتوفر الارادة السياسية والتنفيذية كي يحقق تقدما محسوسا في تقديم الحيتان الكبيرة الى المحاكم، والاستفادة من الدعم الدولي لمتابعة حسابات الفاسدين الموجودة في المصارف العالمية، والتي يتم الاشارة اليها من خلال التصريحات الرسمية والتسريبات الاعلامية.
ويعتبر الجهد العالمي لمحاربة غسيل الاموال ومكافحة الارهاب حليفا موضوعيا عبر متابعة آثار التعاملات المالية من قبل فرق متخصصة بالحسابات المالية الجنائية والوصول الى شبكات تمويل الارهاب والكشف عن اشكال تداخلها مع الفساد عبر منظمات خيرية وهمية ومصارف زائفة مهمتها غسل الاموال وايصال التحويلات المالية الى عناصر ارهابية و نقلها من بلد الى آخر لتقليل مخاطر تعقبها، وايداعها في ملاذات مالية آمنة. ولذا كانت أحد مقومات سياسة “تافت”، وهي الهيئة الدولية المعنية بالتصدي لغسيل الأموال ومكافحة الإرهاب وتوصياتها ملزمة لكل البلدان، هو التأكيد وفضح التشابه والترابط بين غسيل اموال الفساد وتمويل الارهاب والتداخل بينهما. ومن ضمنها كشف الحسابات المصرفية “الفضائية” ومراقبة المصارف والشركات المالية. وأدت جهودها الى ان تغلق الحكومات العديد من المصارف التي لا تنطبق عليها المواصفات القانونية وتجميد الحسابات والودائع المسجلة بأسماء شركات او افراد عليهم شكوك.
وهذا الأمر ذو اهمية خاصة في العراق بسبب وجود مؤسسات مالية ومصرفية تعمل بدون رقابة فعالة وتتاجر بمليارات الدولارات لسد قيم بضائع على اساس قوائم شراء زائفة. وكان هذا أحد اسباب القلق تجاه استمرار نافذة تجارة العملة في البنك المركزي العراقي.
وهناك اربعة اشكال للعلاقة بين عمليات غسيل الاموال وتمويل النشاط الارهابي. الأول هو التحويل الرسمي للأصول المالية عبر المؤسسات المالية والمصارف، والتي غالبا ما تستقر في بلدان عربية او شرق اوسطية او اسيوية على شكل حسابات مصرفية او عقارات او حسابات “اوف شور” في جزر خايمان او لتجشتاين. والثاني تهريب كميات ضخمة من النقد في حاويات او الذهب او احجار ثمينة الى دول الجوار. والشكل الثالث عبر النظام التجاري العالمي، بشراء بضائع خاصة في البلدان التي تفتقد الى قاعدة صناعية وتستورد كل احتياجاتها كالعراق و بأسعار عالية مبالغ فيها. والشكل الرابع عبر نظام الحوالات، والذي هو اشبه بنشاط مصرفي خارج سيطرة الرقابة المالية الرسمية، ويعتبر جزءا مهما من الاقتصاد المالي الاسود.
وقد اظهرت التحقيقات الفيدرالية الامريكية ان شبكة تمويل القاعدة كان يأتي من تبرعات شخصية ودينية خيرية وايضا دعم مالي من طالبان. وأيضا دراسة نشرتها مؤسسة “راند” البحثية حول تمويل دولة الخلافة بالاستناد الى الآلاف من الوثائق العائدة للتنظيم. ولكن مع تقلص الدعم الحكومي السري لها بدأت المنظمات الارهابية بالاعتماد على الجريمة المنظمة كمصادر للتمويل، كتهريب الحشيشة والكريستال والمخدرات، وتستخدم تقنيات غسيل الاموال. ومن هنا سبب ربط ردع غسيل الأموال بمكافحة الارهاب في اواخر التسعينات، خاصة في التصدي للمنظمات الارهابية العابرة للحدود مثل داعش التي تنشط في العراق وسوريا و افريقيا ولها خلايا نائمة في العديد من بلدان العالم، والذي تلجأ اليه مع تضاؤل الدعم الحكومي للانشطة الاجرامية وايضا للتضليل على المصادر القانونية لدعمها. وكان من الإجراءات الهامة التي اُقرّت في مؤتمر منع تمويل الارهاب في ١٩٩٩ هو ملاحقة وتجميد ومصادرة الأموال المهربة كأحد بنود المعاهدات الدولية والتجارية. وحُدّد معنى التمويل ليشمل كل المصادر المالية من افراد ومؤسسات خيرية او ثقافية او دينية او نشاطات اجرامية كتهريب المخدرات او السلاح. وكان الاجراء الآخر المهم هو التوصيات الخاصة التي أقرتها “تافت” في ٢٠١٠ لغلق قنوات تمويل الارهاب.
وتعتبر عمليات غسيل الاموال والإرهاب خطان يسيران بموازاة احدهما الآخر ويتداخلان حسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلد المعين. ومن المشتركات بينهما ان عدوهما واحد وهو الدولة وقواتها الامنية. وهما يعملان بسرية تامة ويستخدمان بنية تحتية متشابهة في مجالات تحصيل السلاح او التنقل او الحصول على موارد مالية. اما الاختلافان المهمان فهما اولاً ان داعش يتبنى ايديولوجية سلفية بينما الذي يحرك الفاسدين والجريمة المنظمة هو شرعنة الاموال. والاختلاف الثاني هو اتجاه سير الاموال. ففي الارهاب يتم جمعها وتحويلها باتجاه الداخل، بينما يتجه غسيل الاموال الى مراكز آمنة في الخارج. الاّ ان المصالح المشتركة بينهما تدفع باتجاه التقارب والتحالف، وصولاً الى بناء بنية تحتية مشتركة مالية تضمن تدفق الدعم المالي. وقد أشارت دراسة حديثة حول تمويل الارهاب في جنوب شرقي آسيا الى تصاعده في فترة الجائحة عبر استخدام العملة الرقمية بشكل خاص والتي تصعب ملاحقتها بدون مهارات جديدة للمحاسبين الخبراء و تطوير اجراءات المراقبة والمتابعة لتشمل العملة الرقمية والذين يتعاملون بها. وهو موضوع جديد له تعقيداته الخاصة.