إذا ما تتبعنا التطور التاريخي للحريات والحقوق سنلاحظ أنها قد بدأت كفكرة يدعو لها المفكرون ثم صارت عقيدة وبرنامجاً لكفاح الشعوب ضد الحكّام الطغاة سعياً وراء التحرر. وقد تبلور كفاح الشعوب خلال القرن التاسع عشر بأوروبا في شكل وثائق قانونية (دساتير) تتضمن الشروط التي أملتها الشعوب المنتصرة على حكّامها، وتلك الشروط تتمثل في حقوق وواجبات كل من الحكّام والمحكومين معاً, وبهذا وصلت الليبرالية في القرن التاسع عشر إلى مرحلة نضجها. تطور مفهوم حقوق الإنسان تبعاً لتطور الفكر الليبرالي نفسه، هذا الفكر الذي وَلَد في أحضان المذهب الفردي مرتكزا على مفهوم معين للحرية باعتبارها حقا للفرد تقوم الدولة بحمايته خاصة مع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث أصبح دور الدولة ينحصر في حماية تلك الحرية دون العمل على توفيرها، وهو ما يعرف في علم السياسة بنظام "الدولة الحارسة" لحقوق الملكية والحريات للأفراد تمشيا مع الشعار الليبرالي "دعه يمر، دعه يعمل". وقد نتج عن هذه السياسة الليبرالية المزيد من ويادة رأسمال الطبقة البورجوازية/الرأسمالية على حساب إفقار "الطبقتين العمالية والشعبية. لا يتأسس النظام الاجتماعي وفقا للرؤية الليبرالية على إرادة مسبقة لأفراد عقلانيين منتظمين داخل مجتمع، وإنما على مجرد سعي كل فرد نحو مصلحته الشخصية بشكل أناني. والحفاظ على هذا النظام الاجتماعي يقتضي ضمان الحريات الاقتصادية للناس وتمكينهم من السعي اللامحدود وراء مصالحهم الأنانية. والعلاقة بين الليبرالية والأخلاق، أو الليبرالية والدين، فإن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد طالما أنه لم يخرج عن دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار. أن تكون منحطاً أخلاقياً، فهذا شأنك. ولكن، أن تؤذي بإنحطاطك الأخلاقي الآخرين، بأن تكون ثملاً وتقود السيارة، أو تعتدي على أي شخص في الشارع مثلاً، فهذا لا يعود شأنك.
وترى الليبرالية أن الفرد هو المُعَبِّر الحقيقي عن الإنسان، بعيداً عن التجريدات والتنظيرات، ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها، وتنبع القيم التي تحدد الفكر والسلوك معاً. فالإنسان يخرج إلى هذه الحياة فرداً حراً له الحق في الحياة والحرية وحق الفكر والمعتقد والضمير، بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد ووفق قناعاته، لا كما يُشاء له من قبل غيره . فالليبرالية لا تعني أكثر من حق الفرد – الإنسان أن يحيا حراً كامل الاختيار وما يستوجبه من تسامح مع غيره لقبول الاختلاف-. الحرية والاختيار هما حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية، ولا نجد تناقضاً هنا بين مختلف منظريها مهما اختلفت نتائجهم من بعد ذلك.
بيد أن الرأسمالية وفكرها الليبرالي يتعرضان لنكسات وأزمات اقتصادية وفكرية، لا تحل إلا بالنزاعات المسلحة، مع واقع أنه دخل في المعادلة الدولية نظام نقيض لها وهو النظام الاشتراكي، وقد كانت الدول الرأسمالية تتوقع أنها تستطيع إعادة تقسيم العالم والثروات بينها وتحطيم النظام الاشتراكي الذي يشكل خطراً على الطرفين المتحاربين (في فترة الحرب العالمية الثانية 1939-1945)، دول المحور الذي يضم ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان من من ناحية ، ودول التحالف من غير الاتحاد السوفييتي وهي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى، وبعد الانتصار التاريخي للجيش السوفييتي على الجيوش النازية، ورفعه علم الاتحاد السوفييتي على مبنى الرايخ الثالث، كان لا بد من إعادة ترتيب المعادلات، إذ تحوَّلت إعادة تقسيم النفوذ من تقسيم بين الدول الرأسمالية إلى تقسيم بين معسكرين رأسمالي واشتراكي. أزمة الرأسمالية في مرحلتها الحالية لن تكون نتائجها متمثله فقط في الركود العالمي وانهيار البورصات وزيادة أسعار السلع والخدمات، لكنها قد تؤدي إلى تفكك أمريكا كدولة ذات سيادة وقانون وتحولها دول ضعيفة ، وذلك لأن المقوم الاساسي الذي تقوم عليه أمريكا هو الاقتصاد الرأسمالي واقتصاد السوق الحر وطبيعة تكوين وعلاقات المجتمع الأمريكي هو الاقتصاد والمنفعة الاقتصادية، فالشعوب الأمريكية تتكون من خليط من ثقافات ولغات وأديان مختلفة عن بعضها البعض بل في بعض الأحيان متنافرة ومتصادمة ولا يوجد ما يجمع بين هذا الخليط سوى الاقتصاد حيث تحتفظ كل قومية في الولايات المتحدة بلغتها وثقافتها ودينها وتراثها وآدابها وفنونها ويجمعها مع القوميات الأخرى نسق اقتصادي رأسمالي وقانون دولة يقوم على حقوق وواجبات خلفيتها أيضا اقتصادية رأسمالية.
وقد إستحوذت الرأسمالية لمفهوم التنوير وكل ما تَفرَّع عنه بحيث يبدو كل من يعاديها وكأنه ظلامياً لأنه يعادي الحرية والديمقراطية وهي الصورة التي ألصقتها الرأسمالية بالفكر الماركسي أولاً وبالدول الاشتراكية لاحقاً. ويبدو أنَّ هذا الاحتكار رسموا من خلاله صورة عند المقارنة بين حالتين في التاريخ، فقد تم عزل هتلر من سياقه القيمي الاقتصادي الرأسمالي واعتبر مجرماً ,تبرأ النظام الرأسمالي منه وحصرها في مفهوم الهولوكوست، الذي استدعى التكفير عنه، بتقديم الدعم لدولة (يهودية) تنشأ على أرض فلسطين على حساب تشريد أهل البلاد ومصادرة منازلهم وأراضيهم وخرق كل ما يمت إلى حقوق الانسان الليبرالية بصلة. أما ستالين فقد رُسمت له صورة الديكتاتور الذي قتل الملايين، مِنْ دون أدلة حقيقية, ( على الرغم من استخدامه حقه الذي اقرته القوانين الوضعية والشرائع السماوية في الدفاع الشرعي عن ارضه وشعبه)، وتم تعميم هذه الصورة لتصبح الصورة النمطية لكل دول المعسكر الاشتراكي، لذلك لم تحصل بولندا التي كان شعبها هو الآخر ضحية للهولوكوست على نفس المعاملة المتسامحة التي حصل عليها الكيان الإسرائيلي . نفس الموضوع ينطبق على المجازر ضد الأرمن التي لم يتم الاعتراف بها دوليّاً إلا بعد انفصال أرمينيا عن الاتحاد السوفيتي. إن الرأسمالية منذ ظهرت وهي تمثل نمطا اجتماعيا واقتصاديا للحياة، وقد وُلِدت من رحم أفكار المسؤولية الشخصية وأخلاقيات العمل البروتستانتية. ومن الجدير بالذكر أن الرأسمالية في حد ذاتها ليست شيئًا سيئًا للغاية ، فإلى حد ما إنها تطلب من الناس أن يسعوا خلف مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية وحتى مصالحهم التجارية والمالية. فالرأسمالية تدور حول : إعطاء الناس الحرية في التبادل التجاري وتكديس الثروة في ظل القيود التي تضعها الدولة حيث تحد القوانين ذات الصلة من الضرر الذي قد يحدثه الطموح والجشع الرأسمالي. فالليبرالية عندما كانت فتية استطاعت إحراز تقدم ثقافي عبر الشعار الأخلاقي “حرية إخاء مساواة”، ولكنها كي تكون واقعية “براغماتية” ومنسجمة مع قوانينها الخاصة كان لا بد لها من التخلي عن مَبدَأي الإخاء والمساواة والتركيز على الحرية واحترام الاستقلالية والحرية الشخصية كمبدأ أخلاقي ونفعي في آن واحد ، ففي المجال السياسي كانت تعني أنها ضد شمولية الأنظمة الملكية والحق الإلهي، وفي المجال الاقتصادي كانت تعني حرية العمل وحرية التبادل وحرية المؤسسة وضد التدخلات الحكومية في الاقتصاد ومع حرية الأسواق.
بالنسبة للنظرية الماركسية فإنَّها تنادي بحرية الإنسان لأنها ترى أن التاريخ الذي نعرفه ما هو إلا مقدمة للتاريخ الإنساني الحقيقي الذي لم تكتب فصوله بعد؛ فحسب ماركس إن الرأسمالية أدت إلى عبودية الإنسان لشروط حياته، لذا نجده يقول: "لقد جعلتنا الملكية الخاصة حمقى وضيقي الأفق إلى درجة أننا لا نعتبر موضوعا ما موضوعنا إلا إذا امتلكناه، أي إلاّ إذا كان بالنسبة لنا رأسمالاً أو شيئا يُملَك- سناء أبو شقرا, حقوق جديرة بحلم. مجلة الفكر العربي، العدد 65، السنة 1991،ص79- ويؤكل، يشرب، يلبس، ويُسكن" . واِعتقد ماركس (1818 – 1883) أن التقدمَ لن يأتِ عبر النقاشات، بل عن طريق مادية الصراع الطبقي عبر التاريخ. ومثل روسو، اعتَقدُ أن المجتمعَ – خاصةً في أسسه الاقتصادية – كان مصدرَ الاضطهاد، في عام 1847 قُبيل الاضطرابات التي اجتاحت أوروبا، كتبَ: "في اللحظة التي تبدأ فيها الحضارة، يبدأ الإنتاجُ، على أسس العداوة، للسلطة، والملكية، والطبقات، وأخيراً على عداوة العمل المتفاقم، والفوري: "لا خصومة، لا تقدم" هذا هو القانون الذي اِتبعته الحضارة حتى أيامنا". كذلك يؤمن كارل ماركس بأنَّ الرأسماليين يسيطرُون على الفائضِ من قيمة العمل ، الذي أنتجتهُ الأيدي العاملة، وهكذا تُحّول الرأسمالية، العُمالَ إلى سلع، وتُحّرمهم إنسانيتهم. في حين أن البرجوازي يُشبعُ شهيته، أي يَجِبُ على العُمال تحّمل العيش في حلقةٍ مفرغة هذا الذي تريده الرأسمالية . لهذا السبب، تحتوي الرأسمالية داخلها علامات سقوطها. في النهاية، سينهض العُمال ليُزيلوا سلطة البرجوازية، ، ويخلقوا نظاماً عادلاً، هذه الوظيفةُ الثورية، لا تقعُ على عاتقِ قائد بطوليّ فقط ،بل على العُمال كطبقة أيضاً. فالماركسية نظرية تمتلك جوهراً أخلاقيّاً تنويريّاً، وأن ما قدمته للبشرية في سبيل نهوض الأمم وتحررها وتحقيق العدالة يفوق في أهميته ما قدمه أي فكر آخر وفي المقدمة الفكر التنويري الأوروبي الحداثي.
ومادام هناك حرّيّة إنسانيّة فسوف تبقى معرّضة للاعتداءات، وبعض تلك الاعتداءات قد يصل إلى حدٍّ فظيع بحيث يستوجب احتجاز مرتكبيها من أجل أمان الآخرين. والسجون ليست مجرّد أمكنةٍ للاقتصاص من المحرومين اجتماعيّاً، مع أنّه من المؤكّد أنّها تخدم تلك الوظيفة أيضاً. وليس من دليل على أنّ ماركس قد يرفض أيّاً من تلك المقولات. الواقع أنّه كان يعتقد أنّ الدولة يمكنها أن تكون قوّة جبارةً في سبيل الخير. لهذا أيّدَ بحماسةٍ التشريعات الهادفة لتحسين الظروف الاجتماعيّة في إنكلترا زمن الملكة فكتوريا. كما انه رأى إلى الدولة على أنّها مصدر شقاقٍ أكثر منها مصدر وفاق. أنّها تسعى بالتأكيد لتأمين تماسك المجتمع، لكنّها تفعل ذلك خدمةَ لمصالح الطبقة الحاكمة في نهاية المطاف. خلْف عدالتها المزعومة يكمن انحياز حديديّ. أنّ مؤسّسة الدولة (تفرض قيوداً جديدة على الفقراء، وتمنح سلطات جديدة للأغنياء... أنّها تؤبّد قوانين التملّك وعدم المساواة، تحوّل أعمال السلب الذكيّة إلى حقٍّ غير قابلٍ للتصرّف، وفي سبيل خدمة عدد من الطامعين، تعرّض الدولةُ البشريةَ جمعاء للعمل الدائم والعبوديّة والبؤس),هذه إنّها كلمات جان جاك روسّو في (خطاب عن عدم مساواة).
هناك مغزى ثابت لليبرالية بصفتها مفهوماً فلسفياً وأيديولوجياً، يتمثل في كل ما يرمز إلى التحرر، واقترن المبدأ منذ البداية بمفهومه الاقتصادي أي حرية الأسواق والتملك ورفض أي تدخل من قبل الدولة وتخطيطها، وقبول اقتصاد تحكمه قيم منبثقة عن حرية التملك والإدارة واستخدام رؤوس الأموال، وما على الدولة سوى القيام بدور المنظم والمشرف والضامن للأمن ومفهوم الحرية ذاته، كما أن تحرير رأس المال يؤدي إلى اختزال مفهوم الأفراد في بعد واحد يتمثل في الاندفاع اللامحدود للفرد نحو حرية الاستهلاك كيفما كان نوعه. والليبرالية تجعل الفرد هو مصدر القيم الأخلاقية وتبرز الصلة بين هذه القيم والمصالح الشخصية، أي عدم ثبوت القيم الأخلاقية التي تتبدل حسب المصلحة والضرورة، فمصدر قيم الخير والشر هو الفرد، والأفعال الحسنة والخبيثة الفرد هو مصدر معاييرها، أي أن الفرد الليبرالي هو مصدر القيم الأخلاقية الذاتية.
ومع بدء انهيار النظام الاشتراكي في أوروبا الشرقية، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، جرت عملية تحول "حاسمة"، حيث فتحت معركة قوية ضد نمط الماركسية ، وما بدا هو أن تسرعاً حَكمَ عملية الانقلاب هذه، لأن "لحظة الانهيار" هي ذاتها "لحظة الانقلاب" دون مسافة ولو بسيطة من أجل التأمل وإعادة الدراسة ومراجعة التجربة. وكأنها مسألة بسيطة عابرة ، وليست مسألة وعي وممارسة، وبالتالي قناعة واقتناع يحتاج تجاوزها إلى وعي مشكلاتها وبالتالي وعي البديل عنها. وكذلك طرح سؤال الديمقراطية، بارتباطها، أو بعدم ارتباطها بالماكسية. وأعيد البحث في خيارات تطــور الأمم المختلفــة، انطلاقاً من ضرورة ترسم لها بالتحديد، كما وضع الحزب اللينيني على بساط "النقد"، والمسائل كثيرة.. وأقول هنا إنّ الطابع العام لهذه الموجة لم يكن "عاقلا" بل عبرّ عن انقلاب سطحي لأنه أعاد إنتاج السياسات ذاتها في كلمات جديدة، وعبر حملة "هجومية" قاسية على تصورات خاطئة.