قبل اكثر من مئة وسبعين عام بدأ الزحف المظفر لـ “بيان الحزب الشيوعي” واليوم لا يستطيع أحد ان يقدر بدقة كم مرة حظر هذا البيان خلال هذا الزمن الطويل، وفي كم من البلدان جهدت قوى البوليس في اقتفاء أثر مالكيه، وفي كم من مناسبة جرت محاولات مأجورة لدحضه واعلانه بيانا محمّلا بالمغالطات او تجاوزه الزمن، غير انه اصبح معروفا عموما ان هذا الكتيب الصغير الذي يوازي حسب تعبير ف.إ. لينين مجلدات بكاملها، قد اصبح اليوم مترجما الى جميع اللغات تقريبا ويعد من اكثر المخطوطات انتشارا وشهرة على ارضنا.
ان قدرة البيان المدهشة على الاستمرار تجد نفسها في محتواه وفي جمال اسلوبه، ولكن ايضا في الظروف التي صدر في ظلها: فقد انبثق البيان مباشرة عن عملية نشوء اول حزب ثوري للطبقة العاملة، عملية اول انصهار بين الحركة العمالية والشيوعية العلمية. فالبيان بحد ذاته هو البرهان الدائم لهذا الحدث التاريخي العالمي لانه ظهر نتيجة لمناقشة البرنامج الاول للحزب العمالي الثوري على الصعيد العالمي، تلك المناقشة التي دارت على امتداد سنة 1847. ان جميع الوثائق المنشورة في هذا الكراس نتجت عن تلك المناقشة، و”مبادئ الشيوعية” لفريدريك إنجلز، الذي يعتبر مرحلة تمهيدية هامة “للبيان الشيوعي” يشغل بالضرورة الحيز الاساسي فيه وهو بالتالي وثيقة بالغة الاهمية للشيوعية العلمية.
ان كل انسان ولو لم يكن ملما بالماركسية اللينينية يستطيع ان يفهم “مبادئ الشيوعية”، ففي هذا الكتاب حلل إنجلز موقع البروليتاريا الاجتماعي في الرأسمالية ونشوءها ووضعها ورسالتها التاريخية، وإنجلز في هذا الكتاب لم يثبت فقط بان النظام الاجتماعي الاشتراكي الجديد سوف يأخذ مكان النظام الرأسمالي، بل رسم ايضا – وهنا تكمن اهميته الخاصة بالنسبة الينا اليوم – بعض ملامح هذا النظام الاجتماعي الجديد. فقد وضع في المرتبة الاولى مسألة القضاء التدريجي على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وبشكل مخالف لسابقيه من الاشتراكيين الطوباويين اشار إنجلز الى الطريق الواقعي لاقامة السلطة الكاملة للطبقة العاملة في عملية تحويل دمقراطية وليس دفعة واحدة. وبالنسبة له كانت الظروف التاريخية الملموسة تشكل مقياسا لسلوك الثورة الاشتراكية الطريق السلمي او طريق العنف، وفي هذا الكتاب اجاب إنجلز على سؤال ما اذا كان الشيوعيون سيقضون على العائلة او على الدين ام على القومية؟؟
ان إنجلز يستوقفنا بشكل خاص وبرد مميز على سؤال “ما هي نتائج الغاء الملكية الخاصة الغاء نهائيا؟”. هنا يطرح في رده اول طرح علمي متكامل لملامح النظام الاجتماعي الاشتراكي: تخطيط اقتصادي، تطور صناعي سريع وخال من الازمات، تطبيق العلم في الزراعة، تلاشي التناقضات الطبقية، تكون الانسان الجديد ذي التطور الشامل والاتصاف العالي، التربية اللائقة للشبيبة، زوال التناقض بين المدينة والريف.
وقد يتهيأ لنا ان إنجلز كتب الجملة التالية يوم امس، حيث يقول: “ان الصناعة التي يخططها المجتمع بأسره ويديرها جماعيا، تشترط وجود اناس ذوي قدرات شاملة التطور، وفي وضع يمكنهم من معاينة مجمل جهاز الانتاج”. لقد انطلق إنجلز في صياغته لـ “مبادئ الشيوعية” من ارضية مشابهة في اساسها لارضية المبادئ المعروفة باسم “مشروع تبني العقيدة الشيوعية”.
وكان المؤتمر الاول لعصبة الشيوعيين في لندن قد وضع مشروع البرنامج هذا في حزيران سنة 1847 وارسله الى الاعضاء. وكانت المفاجأة ان يوجد هذا المشروع “مبادئ الشيوعية” مكتوبا بخط فريدريك إنجلز، لقد لعب إنجلز اذن اثناء المؤتمر الاول لعصبة الشيوعيين دورا قياديا في مناقشة البرنامج واستطاع ان يطرح سلسلة من المسائل الاساسية للشيوعية العلمية، في هذه المرحلة المبكرة لوضع البرنامج في وثيقة حزبية رسمية هامة، لذلك نستطيع القول بأحقية اكبر من ذي قبل ان “مبادئ الشيوعية” لم تكن ابدا نتاجا معزولا لعلاّمة موهوب، بل كانت جزءا من نقاش حزبي حاسم. وهذا النقاش كان بالغ الاهمية في تلك المرحلة من تاريخ الحركة الثورية العمالية، التي حملت الى الوجود، مع تأسيس عصبة الشيوعيين، اول حزب ثوري بروليتاري في المانيا وعلى الصعيد العالمي في آن واحد. وهناك اقوال لماركس وإنجلز اعطت لمحة عن تاريخ عصبة الشيوعيين صدرت مختصرة عن “المكتبة المصغرة للماركسية” تحت عنوان كارل ماركس/ فريدريك إنجلز: “حول تاريخ عصبة الشيوعيين” بالاضافة الى ذلك صدر في السنوات الاخيرة “تاريخ الحركة العمالية الالمانية”، برلين 1966 المؤلف من ثمانية اجزاء ولاقى انتشارا واسعا، ويعالج فصلاه الاول والثاني تاريخ عصبة الشيوعيين على اساس بحوث جديدة. ومن يهمه الامر يمكنه مراجعة المنشورات الوثائقية “عصبة الشيوعيين – وثائق ومواد” الجزء الاول برلين 1970.
كتب هذا الكتاب لإنجلز أي “مبادئ الشيوعية” ما بين تشرين الاول وتشرين الثاني 1847، في هذا الكتاب يقول إنجلز بان “الشيوعية هي علم شروط تحرر البروليتاريا”، وعلى سؤال ما هي البروليتاريا، هي تلك الطبقة من طبقات المجتمع التي تكسب قوتها من بيع عملها حصرا وليس من الربح الناجم عن رأسمال ما، فسعادتها (أي البروليتاريا) وشقاؤها وحياتها وموتها ووجودها كله امور مرهونة بطلب العمل وبالتالي بتتابع ازمة السوق وانتعاشها وبتأرجحات مزاحمة لا يردعها رادع. فالبروليتاريا او طبقة البروليتاريين هي بكلمة واحدة الطبقة الكادحة في القرن التاسع عشر (وطبعا الآن في العصر الامبريالي د.خ).
وحول سؤال، ألم يكن هناك اذا بروليتاريون بصورة دائمة؟
على هذا السؤال يجيب إنجلز: “كلا. لقد وجد دائما فقراء وطبقات كادحة وكانت الطبقات الكادحة فقيرة غالبا، لكن لم يكن يوجد دائما فقراء وشغيلة كالذين بيّنا ظروف معيشتهم اعلاه، اذن لم يكن يوجد دائما بروليتاريون، كما لم تكن توجد دائما تلك المزاحمة الحرة التي لا يردعها رادع”.
وعن سؤال كيف ظهرت البروليتاريا؟ يجيب إنجلز: (وهنا اختصر الاجابة ببعض الفقرات التي قالها إنجلز): ظهرت البروليتاريا على اثر الثورة الصناعية التي حدثت في انجلترا في النصف الاخير من القرن الماضي، والتي اخذت تتكرر منذ ذلك الحين في جميع البلدان المتقدمة في العالم”. والتطورات التي حدثت نتيجة الثورة الصناعية ادت الى “التحول التام لأوضاع العمال وتكون طبقتين جديدتين ضمتا بالتدريج جميع الطبقات الاخرى وهما:
طبقة كبار الرأسماليين التي تحتكر، في البلدان المتمدنة جميعا، ملكية وسائل العيش وجميع المواد الاولية والادوات (الآلات والمصانع) الضرورية لانتاج وسائل العيش – تلك هي طبقة البرجوازية.
طبقة المعدمين الذين لا يملكون شيئا والذين ليس امامهم سوى عملهم (في ما بعد سيكتشف ماركس ان الذي يباع هو قوة العمل وليس العمل بشكل عام) للبرجوازيين لقاء الحصول على وسائل العيش الضرورية لبقائهم، وتلك هي طبقة البروليتاريين او البروليتاريا.
وفي اجابة إنجلز حول اية ظروف يتم بيع عمل البروليتاريين هذا للبرجوازيين؟ يقول إنجلز:
ان العمل هو وسيلة كأية سلعة اخرى، فسعرها يتحدد اذن بموجب القوانين نفسها التي تحدد سعر اية سلعة اخرى. وفي ظل هيمنة الصناعة الكبرى او المزاحمة الكبرى (مما يعني الشيء نفسه في النهاية كما سنرى) يساوي سعر السلعة دائما متوسط كلفة انتاج العمل، لكن كلفة انتاج العمل تتقوم بالضبط في كمية الوسائل المعيشية الضرورية لتمكين العامل من الاستمرار في العمل وللحيلولة دون انقراض الطبقة العاملة، فلا يتقاضى العامل لقاء عمله سوى الحد الادنى الضروري لانجاز هذا العمل، وسعر العمل، او الاجر سيشكل اذن الحد الادنى الضروري للبقاء. وحيث ان ظروف السوق تتحسن تارة وتسوء اخرى فان اجر العامل يزيد او ينقص تماما كما يزيد او ينقص ما يحصل عليه الصناعي لقاء سلعه. وكما ان الصناعي لا يحصل في الاحوال الحسنة والاحوال السيئة لقاء سلعه لا اكثر ولا اقل من متوسط كلفة انتاجها، كذلك العامل فانه لا يستطيع ان يتقاضى كمعدل وسطي لا اكثر ولا اقل من الحد الادنى. وبقدر ما تتحكم الصناعة الكبرى بجميع فروع العمل بقوة اكبر بقدر ما يطبق قانون الاجور الاقتصادي هذا بصرامة أشد...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتحاد” الحيفاوية – 11 أيلول 2020

عرض مقالات: