المنطقي أن يقود التطور في التكنولوجيا والعلوم والاكتشافات والاختراعات الحديثة إلى ما يحد من ظواهر تفشي العنف وبأشكاله المختلفة في المجتمعات، لكن الحقيقة تبلغ عن فداحة المنطق قياسا للمفترض.

وإذا كانت أشكال ومسببات العنف مختلفة في البلدان والأزمنة، وتبعا لظروفه وأشكال أنظمتها الاجتماعية والسياسية وطرق توزيع الثروة وتقاسم الدخول والأجور، يبقى التفاوت الطبقي، وتكريس تقسيم المجتمع إلى طبقات، ومحاولة عولمة العالم وفق مبدأ دول تنتج وتصنع وأخرى تستهلك وتصدر النفط والمواد الخام، هو العنف الأكبر والأعنف، رغم عدم تمحوره ظاهريا للعيان كفعل قانوني غير جرمي، وتدرجه ضمن تفسيرات المتخمين كون العالم خلق هكذا بين مالك ومحروم.

الدارس لتاريخ الشعوب والبلدان يجد في أن مستوى علاقة الحاكم بالأفراد، ومستوى تقييم الأفراد لحاكميهم، يؤثر بهذا الشكل أو ذاك في تحديد سلمية أو عنف تصرفات الناس والجماعات، وهنا يندرج أيضا مستوى تعقل الحاكمين وطريقة تحكمهم في ثروات بلدانهم...لست بالباحث أو المتخصص في مجال تقييم الظواهر الاجتماعية وارتباطها بمستوى العنف والجريمة واستخدام السلاح ووسائل العنف الأخرى في تعامل البشر والجماعات، ولكني اجزم، وبحكم التجربة والمعايشة، أن البلدان التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي ومعها البلدان الاشتراكية في أوروبا الشرقية، قبل ما حدث في ١٩٩٠ من انهيار لهذه التجربة الاشتراكية في حكم وأنظمة ودساتير هذه البلدان، هي الأدنى نسبا وحدودا في مستوى تفشي ظواهر العنف قياسا للعالم الرأسمالي والغربي، ومع باقي البلدان بأنظمتها المختلفة، والموضوع لا يعني بأي حال من الأحوال تزكية هذه النظم في هذه البلدان من سوء استخدام السلطة والفهم الخاطئ لأفكار الاشتراكية العادلة وسوء التطبيق، البيروقراطية والتحكم، وغيرها، ولكن القصد هنا في حساب مستوى تفشي العنف في المجتمع..

وهذا الموضوع يحتاج لتفاصيل وشروح كثيرة ومقارنات لا يسعها هذا العرض المحدود.

حال العراق اليوم يؤشر لاستفحال وتمركز وتفشي ظواهر العنف المختلفة، والتي ساهمت حزمة من الظروف والعوامل التاريخية البعيدة والقريبة، في تكوينها وتجذرها، أحيانا بدراسة وعلم أهل السلطة والحكم، وأحيانا كانعكاس مباشر لمجمل طرق عيش المجتمع ومستوى القهر الطبقي فيه.

جذور العنف تكمن في العوامل الاجتماعية وأساسها التوزيع الغير عادل للثروة الريعية،وعبر استحواذ فئة قليلة عليها وحرمان الأكثرية، وتفشي البطالة، وانعدام الخدمات العامة المجتمعية متمثلة بضعف التخصيص لقطاعات الثقافة والفنون والرياضة والصحة والتعليم..

مدن بدون مسارح،سينما،مكتبات،قاعات وملاعب رياضية، أماكن للفن والموسيقى والأدب والهوايات الأخرى والترفيه، متنزهات وحدائق..ضعف الشعور والانتماء الوطني جراء الخيبات التي ولدتها سياسات تكريس الطائفية والعشائرية..مع ضعف القضاء والقانون، الذي تنافسه سلطة القبيلة والعشيرة الحامية..الخلل الكبير في مناهج التعليم وتغلغل فكر الطائفية والمناطقية فيه، وضعف الاهتمام بالنشأ الجديد وخصوصا الأطفال، وسط مدارس متخلفة وبائسة في أبنيتها ومستلزماتها ونقص كادرها التعليمي وضعف مستواه المهني والثقافي والقدرة التأهيلية لتربية النشأ... ضعف التثقيف العام بكوارث العنف والجريمة والضرر الذي يلحقانه بالمجتمع، مع تفشي ظواهر انفلات السلاح وبيعه وتداوله، وبكل أنواعه مع انفتاح القنوات الإعلامية ومواقع التواصل في نشر افلام وبرامج الرعب والعنف والجريمة، ووسط غياب أي رقابة مجتمعية أو حكومية..وأيضا ضعف الوازع الديني عند قسم من المجتمع والذي كان سائدا في ما مضى والمتمثل في الخوف من الآخرة والجنة والنار والحساب، خصوصا مع انتشار لا أبالية عدد من القوى التي تدعي التدين والأيمان مع استمرارها بالنهب  والاستحواذ على المال العام.

عرض مقالات: