تتوجه الانظار والآمال نحو حكومة رئيس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي الذي يبدو ان الوعود التي أطلقها للمواطنين وكرر التزامه بتحقيقها تختلف عن خطاب من سبقوه من رؤساء الحكومات المتعاقبة، الذين لم يحققوا وعداً واحداً من وعودهم للعراقيين، انما قدموا لأحزابهم المتحاصصة المراكز والامتيازات والغنائم ومكنت مليشياتهم من الإمساك بخناق العراقيين وفرض ممارساتها في هضم حقوقهم وتقويض حرياتهم.

والسبب وراء استقبال المواطنين الإيجابي لخطاب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، هو أولاً لعدم انتمائه الى دائرة الأحزاب الإسلامية أو المتحاصصين معها، فهو ذو توجه مدني علماني.

كما لا يعرف عنه، انه تورط بسرقة المال العام او استغلال موقعه كرئيس للاستخبارات العسكرية للحصول على منافع شخصية، وعدم اشتراك دائرته في الصراعات الدائرة بين قيادات الأجهزة الامنية وكذلك المليشيات الحزبية على مراكز النفوذ، ولعدم تورط جهازه الأمني المهم في عمليات قمع للمتظاهرين والمنتفضين كما كان سائداً في الحقب السابقة، على نقيض ممارسات القتل والخطف والاغتيال التي مارستها قوى محسوبة تارة على اجهزة الحكومة وتارة اخرى على المليشيات الحزبية.

وصل السيد مصطفى الكاظمي الى سدة رئاسة الوزارة إثر أزمة سياسية واقتصادية خانقة، حيث الأزمة البنيوية الحادة التي تعصف بنظام المحاصصة الطائفي - العرقي والآفاق المسدودة لاستمراره، وفساد اداري مستفحل، وانتفاضة شعبية عارمة تطالب بالتغيير، قمعت بوحشية.

وبعد ان أفشل المنتفضون كل محاولات احزاب السلطة في فرض شخوص من نفس دائرتها لرئاسة الوزارة، صوتوا في مجلس النواب، على مضض، على المستقل السيد مصطفى الكاظمي باعتباره الخيار الأخير الذي قد ينقذها من غضب الشعب، يُقضّون به الفترة الانتقالية المحدودة... ولم يأبهوا للوعود التي أطلقها بوضع البلاد على سكة التغيير ومحاسبة الفاسدين وقتلة المتظاهرين السلميين وغيرها من شعارات براقة تعودوا على سماعها ممن سبقوه من رؤساء الوزارات.

لكن اليوم وبعد ان أصبح الأمر واقعاً ووقع الفأس بالراس... اصبحوا متيقنين بأن اختياره كان كارثة حقيقية وورطة سياسية يصعب التعامل معها، بعد ان تبين لهم انه رئيس وزراء آمر وليس مؤتمر، لاسيما بعد تقريبه لعسكريين أكفاء يحظون باحترام شعبي، قاتلوا ببسالة ارهابيي داعش وسحقوا دولتهم، جرى استبعادهم سابقاً لأجل عيون قادة المليشيات التابعين لإيران.

وقد رُفع بإعادتهم الى مواقعهم القيادية، شبح المليشيات على القوات المسلحة.

مصطفى الكاظمي غير المنتمي لأحزاب الأسلام السياسي الحاكمة والذي ليس له سند سياسي ولا برلماني، كان لابد من ان يبحث عن سند شعبي، بالتوجه الى شباب الانتفاضة قاطرة التغيير وعموم المواطنين لنيل رضاهم، رغم التوجس العام الموروث من اصحاب السلطة.

وقد تفاجأت الأحزاب المهيمنة الحاكمة بموقفه من دفع رواتب المواطنين المتقاعدين المتأخرة لشهور عديدة، والذي حاول ممثلهم في هيئة التقاعد العامة إحراجه بتأخيرها، بحسب ما كان معمولاً به سابقاً، الا انه زار بنفسه مقر الهيئة وأمر بدفع الرواتب كاملة ثم نحى رئيسها الذي كان معشعشاً فيها، محاصصياً، لسنين طويلة ويمارس ابتزاز المواطنين المتقاعدين بأمرهم.
وتلك كانت اولى خسارات احزاب السلطة وأولى نجاحاته وتسديده هدفاً في شباكهم. أنعشت الآمال الشعبية بصدقيته.

الحادثة الأكبر والتي أرعبت المليشيات واحزابها كانت بجرأته على اعتقال افراد ما سميت ب" خلية كاتيوشا البو عيثة " التابعة لمليشيا حزب الله الأكثر بطشاً، وهو أمر لم يقدم عليه أحد قبله بعد 2003، وتسليمهم للقضاء حسب ما تقتضيه السياقات الإدارية والقانونية التي تقع في اطار مسؤوليات السلطة التنفيذية باعتباره رئيساً لها، لكن المحكمة ارتأت اطلاق سراحهم لأسباب أثارت حفيظة المواطنين المكتوين بنار المليشيات... فأعقب الابتهاج الشعبي باعتقالهم امتعاضا !

ولكنه، بالنهاية، كان قد رمى رميته وسدد الكرة في مرمى السلطات القضائية بعد ان ادى ما يقع في اطار مهامه الدستورية كسلطة تنفيذية وأخلى مسؤوليته من تبعاتها.

وأظهرت الاستفزازات المليشياوية الأستعراضية وافعالها الصبيانية، التي أعقبت العملية، الى انه اصابهم في مقتل واطاح بعنجهيتهم، رغم استمرارهم بالتعرض لمنشآت الدولة العامة ومعسكرات القوات المسلحة والمطارات بالكاتيوشا للثأر لكبريائهم المهانة.

اعتقد بأن مواقف وسياسات وتكتيكات الكاظمي تستند الى الاستفادة القصوى من اخطاء احزاب الفساد ورعونة مليشياتها، والبناء عليها لترسيخ سلطته وتعزيز الثقة الشعبية بإجراءاته، وهذا عين الصواب.

وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحادة للبلاد، كان لابد من ان يبحث عن سبل لسد احتياجات الميزانية العامة التي استلمها فاضية تقريباً، وبعد تراجع اسعار النفط وانخفاض مستويات تصديره، فكانت الخطوة الموفقة بضبط المنافذ الحدودية البرية والبحرية والجوية وفرض سلطة الدولة، وطرد المسؤولين الفاسدين فيها وتقويض سيطرة المليشيات والمافيات فيها، فكانت ضربة مؤثرة لقوى الفساد ومكاتب احزاب السلطة الاقتصادية.
وهو انجاز يحسب له... الإرادة الشعبية تطالب بتعزيزه.

كما ان لقاءاته المباشرة مع شرائح متعددة من خريجي الجامعات واصحاب الشهادات العليا، وايعازه باستيعابهم في مؤسسات الدولة، قد عزز من شعبيته ومن ثقة المواطنين من وجود مساعي حقيقية من قبله لتحسين أوضاعهم، حسب الإمكان.

من الطريف ان يحاسب بعض سياسيي واعلاميي احزاب السلطة السيد الكاظمي بعد مرور مئة يوم من حكمه على ما خربوه طوال اكثر من خمسة عشر عاماً من حكمهم، ويطالبوه بإصلاحه !

لا يمكن بالطبع توقع انجازات سريعة، لصعوبة الأوضاع وتعقد الظروف ومقاومة جبهة الفساد المتغلغة في اجهزة الدولة، إلا ان بعض الإجراءات الإدارية التي تبدو بسيطة وليست ذات تأثير، كانت ضرورية لتمهيد الطريق للشروع في توجهات اعمق واكبر، وهي خطوات متأنية باتجاه اصلاحاته المنشودة، مثل التغييرات في الطاقم الأداري في رئاسة الوزراء مع توظيفه شخصيات متنفذة من احزاب السلطة الى مستشارين ليس لديهم سلطة القرار، احتساباً للتوازنات السياسية، على الأرجح، وهذا ما يُشكل عليه بعض المتشككين.

أتوقعه مستوعباً لحقيقة وجود هذا الطابور الخامس قريباً من مواقع اتخاذ القرار، وخطورة ذلك وضرورة الحذر منهم، ولابد ان يكون هناك من طاقم مستشاريه من نبهه الى ذلك لو افترضنا غفلته عنهم.

الظاهر انه يحاول تجنب إبقاء ثغرات في سياساته وإجراءاته يمكن ان يستفيد منها المتربصين به والمتصيدين بالماء العكر... فالحذر أساس عمله، لهذا يصبح توقع ثمرات ناضجة قابلة للقطف سريعاً، أمراً عسيراً... فهي ستبقى مشرعة لشمس النضوج... وانا أيضاً من الناس الذي نفذ صبره من انتظار موسم القطاف، ولكن للضرورة أحكام !

نتائج زيارته للولايات المتحدة وثمرات عقده لاتفاقيات اقتصادية في مجال الكهرباء بالخصوص، وكذلك فتح آفاق تعاون اقتصادي مع دول عربية وبوابات جديدة كانت مغلقة للاقتصاد العراقي، هو ما يهم المواطن العراقي، ويرغب رؤيتها على أرض الواقع بأسرع وقت ممكن .

ان ديناميكية تحركات السيد الكاظمي تعكس سعيه الحثيث لخدمة العراق والعراقيين وهي سمة يُثاب عليها، تتقاطع نوعياً مع جمود او سلحفائية ما سبقوه من رؤساء الوزراء " الخدجية " السابقين.

فقد كان توجهه المباشر الى محافظة البصرة مباشرة بعد رجوعه من الولايات المتحدة للبت بأمر مواجهة استباحة المليشيات والعصابات الإجرامية للمحافظة وسكانها، طريقة تعامل غير مسبوقة لمسؤول حكومي رفيع على مستوى رئيس الوزراء في تاريخ العراق، تعودنا التجاهل الفض من سابقيه ان لم تكن التغطية على جرائم القتلة.

وقد تلقى العراقيون، بتفاؤل، حزمة قراراته كقائد عام للقوات المسلحة بتنحية قيادات أمنية في المحافظة تابعة لسلطة الأحزاب الأسلامية، متورطة بقمع المتظاهرين، متواطئة مع مليشيات القتل ومافيات التهريب، وهو ما أعتبر ضربة جديدة لهذه الأحزاب، وتنفيذاً لمطلب شعبي... يتطلع الى استكمال هذا الأجراء بتقديمهم للقضاء لينالوا جزاءهم العادل، وكذلك بإقالة المحافظ الذي كان أحدى أدوات القمع السلطوي وعنوان للفساد في البصرة.
ان انتزاع محافظة البصرة بما تشكله من أهمية استراتيجية من سيطرة المليشيات وأحزابها يعني تجفيف لمواردها وبالتالي استتاب الأوضاع الأمنية وحل للأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وتفتح آفاق تطوير البنى التحتية والبدء بعمليات البناء.

لقد الهبت جرائم اغتيال المنتفضين في البصرة والناصرية وغيرها من محافظات البلاد نار الانتفاضة بدل ان تخمدها، وزادتهم عزماً على المطالبة بالكشف عن قتلة رفاقهم وتقديمهم للعدالة، وعلى انتزاع حقوقهم من سالبيها، خصوصاً بعد حملات التشويه الإعلامية التي طالتهم من قبل قيادات إسلامية حزبية وبرلمانية سقطت في امتحان الوطنية والسياسة كما في امتحان الحياة ونالت المقت الشعبي.

وتبقى مهمة كل وطني عراقي يطمح الى مستقبل افضل... تجنيب شعبنا إراقة المزيد من الدماء!

عرض مقالات: