برزت على بعض المواقع الإعلامية نداءات تدعو المواطنين العراقيين إلى مقاطعة الإنتخابات البرلمانية المؤمل اجراؤها في الشهر القادم داخل وخارج العراق . وطرح مؤيدو هذه النداءات جملة من الأمور التي يرون فيها تبريراً لموقفهم هذا . وبالنظر لعدم قناعتنا بما تفضل به ناشرو هذه النداءات ، نحاول هنا ان نستطلع بعض ما تضمنته هذه النداءات ومناقشتها بما قد يؤدي إلى النفع العام لوطننا واهلنا الذين ندعوهم للمساهمة في هذه الإنتخابات على اوسع نطاق .

النقطة الأولى التي ينطلق منها دعاة مقاطعة الإنتخابات تتناول مفوضية الإنتخابات وقانون الإنتخابات سانت ليغو 1،7. لابد لكل مراقب منصف ان يتفق مع ما يذهب اليه السيدات والسادة حول هذا الموضوع الذي يشكل فعلاً واحداً من العراقيل المؤدية لشفافية الإنتخابات . فمفوضية الإنتخابات لا تعكس الإسم الذي يشير إلى استقلاليتها ووقوفها بمسافات متساوية مع الجميع . وهذا ليس غريباً على مؤسسة يجلس فيها ممثلوا الأحزاب الحاكمة بنسب تؤهلهم لأن يحققوا ما تريد احزابهم الوصول اليه من اجراء الإنتخابات التي وظفت لها قانوناً يتيح لها سرقة اصوات ليس لها وبالتالي جمع اكثر الأصوات إلى جانبها لتحقق بعدئذ " فوزها " بمقاعد انتخابية تفوق بعددها ما حصلت عليه فعلاً من اصوات الناخبين. هذه العاهة في العملية الإنتخابية لا ينبغي لها ان تستمر على هذا الحال التي هي عليه الآن . وهنا يبرز السؤال الذي قد يطرحه اي مواطن ينشد تغيير ذلك : ما هو السبيل إلى هذا التغيير ؟ هل تقود مقاطعة الإنتخابات إلى هذا التغيير او انها ستكرسه للإنتخابات القادمة ايضاً . إن ذلك يعني عملياً ان الأحزاب الحاكمة قد هيأت كل مستلزماتها البشرية والإعلامية وحتى اللاقانونية  لخوض هذه الإنتخابات .  ففي حالة المقاطعة ستكون الأصوات الواصلة إلى صناديق الإقتراع تشكل نسبة عالية لمرشحي الأحزاب الحاكمة وبالتالي احقية هذه الأحزاب بتشكيل الحكومة الجديدة التي سوف لن تفكر مطلقاً بتغيير هذا النمط الإنتخابي ، بل يمكن ان تكرسه بشكل اكثر استغلالاً لأصوات الآخرين واكثر انتهاكاً لحقوق الناخب من خلال اجراءات مفوضية انتخابية تظل على شاكلتها الحالية التي ستستند فيها على حقها الإنتخابي . قد يعترض مؤيدو مقاطعة الإنتخابات على هذا الطرح بالقول ان عدم المشاركة ستجعل النسبة المئوية المطلوبة لشرعية الإنتخابات اقل مما يجب ان تكون عليه والتي تقدر بنسبة 25% وبذلك ستتدخل الأمم المتحدة بالإشراف على انتخابات جديدة يجري تنظيمها في العراق **. وللرد على هذا الطرح نؤكد على ما يلي :

اولاً: سوف تعمل الأحزاب الحاكمة كل ما في وسعها لعدم تدني نسبة المشاركة في الإنتخابات إلى هذه النسبة . وما يؤيد هذه الحقيقة يتجلى في مدى تأثير هذه الأحزاب على فئات كثيرة في المجتمع العراقي تستطيع إشراكها في الإنتخابات حتى وإن لم تصوت لها ، إذ ان الأمر ينطلق هنا من رفع نسبة المشاركة اساساً . اما اصوات نجاحهم بالأكثرية فسترتفع هذه المرة بالرغم من وجود اصوات معارضة لم تصوت لها او لغيرها ، اي اصحاب الأوراق البيضاء .

ثانياً:الأحزاب الحاكمة هيأت كل مستلزمات التصويت لها سواءً من قبل جماهيرها المؤيدة لها فعلاً أو من خلال كل عمليات شراء الأصوات التي تسير على قدم وساق في الوقت الحاضر. وهذا يعني ان دعاة المقاطعة لا يملكون تلك الإمكانيات المادية والبشرية لإبعاد 75% من الناخبين عن صناديق الإقتراع . ولو فرضنا توفر هذه الإمكانية لدى مؤيدي المقاطعة ، فلماذا توظف هذه الإمكانية باتجاه الإنتظار الذي لا نعرف مداه ، ولا توظف باتجاه المشاركة الرافضة للأحزاب الحاكمة وباتالي يمكننا الحصول على نتائج واضحة باتجاه التغيير ومن ثم الإصلاح .

ثالثاً :معظم التجارب التي خاضتها الأمم في اوقاتها العصيبة التي استعانت على تجاوزها بالأمم المتحدة تشير إلى المواقف المتفرجة ، وفي احسن الأحوال النداءات الإنشائية الصادرة عن هذه المنظمة الدولية التي تتلاعب فيها مصالح الدول الكبرى التي تسير السياسة العالمية حسب رغباتها ، ولا اعتقد ان سياسة الدولة العراقية بقادتها الحاليين بمنجى عن لعبة المصالح هذه التي تراهن على جشع الأحزاب الحاكمة واستعدادها للتفريط بالمصالح الوطنية مقابل بقاءها على قمة السلطة السياسية .

رابعاً: ولا ينبغي لنا في هذا المجال نسيان الدور الإقليمي الذي فرض نفسه على العراق من خلال تواجد احزاب الإسلام السياسي ومن يشاركها في توجيه العملية السياسية في وطننا. لقد وفرت هذه الأحزاب فضاءات رحبة للصراع المذهبي والمناطقي لدول مثل السعودية وإيران وتركيا وجعلت من وطننا ساحة واسعة لهذه الصراعات التي ستستمر طالما ظلت هذه الأحزاب على قمة العملية السياسية في العراق . اي ان المقاطعة ستمدد هذا الصراع على ارض وطننا لأربع سنوات اخرى على الأقل ، وربما بزخم اكبر يرافقه " الفوز " الإنتخابي العالي النسبة في حالة انفراد الأحزاب الحاكمة بتسيير العملية الإنتخابية ونتائجها .

النقطة الأخرى التي يذكرها الداعون لمقاطعة الإنتخابات تتركز حول عمليت التزوير التي تقوم بها احزاب الإسلام السياسي والقوى الداعمة لها في الحكم والتي سترافق الإنتخابات التي يعتبرونها محسومة النتائج حتى قبل إجراءها . لا شك في ذلك مطلقاً ، إذ ان الأحزاب الحاكمة اثبتت براعة منقطعة النظير في التزوير والتلاعب بنتائج الإنتخابات .

عمليات تزوير الإنتخابات تقوم بها الجهة التي تريد تثبيت مواقعها في حالة شعورها بوجود منافس قوي قد ينتزع منها هذه المواقع . يساعدها في ذلك وجود قوانين وانظمة وتعليمات تتيح لها التزوير وان تمارس عملياتها هذه دون ، او ندرة ، الملاحقات القانونية التي يمكنها ان تحد من عمليات التزوير هذه. في هذه الحالة فإن المقاطعة تعني :

اولاً: ان القوى التي تمارس التزوير سوف لا تتعب نفسها كثيراً بابتكار وساءل اخرى او جديدة او اضافية لممارسة التزوير، حيث ان عامل المنافسة ينتفي هنا ، وبذلك ستكرس كل جهودها لتعبئة اكثر ما يمكن من مناصريها للإشتراك في العملية الإنتخابية التي سيتلقى الشعب نتائجها الكارثية للسنين الأربعة القادمة ايضاً .

ثانياً: الإشتراك الكثيف بالإنتخابات يعني فزع قوى التزوير واندفاعها لممارسته بشتى الوساءل المتاحة لها وبذلك تزداد إمكانيات كشفها من قبل القوى الأخرى الغير مشاركة في عمليات التوزير هذه .

ثالثاً: إن المشاركة في الإنتخابات قد تفرز بعض القوى او الكتل البرلمانية التس ستساهم بالتصدي للقوانين والتعليمات التي تفسح المجال امام المزورين لممارسته . إن مثل هذا الفضح امام الجماهير سيؤدي حتماً إلى ردود فعل سوف لن تتوفر في حالة عدم وجود مثل هذه الكتل البرلمانية في حالة مقاطعة الإنتخابات .

استناداً إلى ما تقدم اعلاه يمكننا القول ان النتائج السلبية للمقاطعة ستكون بالتأكيد اكثر مما هي عليه في حالة المشاركة بالإنتخابات ، خاصة في حالة المشاركة الكثيفة . إن اهم ما تفرزه عملية المقاطعة هو الإنتظار لأربع سنوات اخرى تتكرس فيها سياسة المحاصصات بشكل اعمق وتُمارَس فيها سياسات التجويع والإهمال والفساد بكل اشكاله بكثافة اشد ، في ظل اجواء برلمانية مريحة تتيح للمتسلطين سن قوانين قمعية واستغلالية ومحاصصاتية اكثر مما سبق ، خاصة وإن صوت المعارضة يكاد يكون معدوماً بسبب مقاطعة الإنتخابات .

ليس هناك من عاقل في العراق او ممن يعي وضع العراق خارجه يفكر بان التغيير والإصلاح لكل ما فسد في العراق يمكن تحقيقه من خلال نتائج دورة انتخابية واحدة او اثنتين . إن عملية التغيير والإصلاح في الوضع العراقي عملية معقدة وشائكة وهي نتيجة مأساوية لعقود تسلط دكتاتورية البعثفاشية المقيتة التي اكملتها سياسة التخلف والإنحطاط لقوى الإسلام السياسي والتطرف القومي العنصري والإنتماءات البعيدة عن الإنتماء الوطني والمؤسِسَة لممارسة المحاصصات البغيضة. وإذا ما التزمنا بواجبنا الوطني تجاه اهلنا ووطننا فليس لنا من خيار سوى ولوج العملية السياسية بكل تعقيداتها وعراقيلها وحتى اخطارها التي قد تكون اخطاراً يتعرض فيها كل مَن يسير عكس تيار الأحزاب الحاكمة لتصفيات مليشياتها المختلفة . فهل سنختار هذا الطريق الشائك ، ام نسكن إلى الإنتظار لأربع سنوات اخرى يمكننا ان نحتج فيها ما يمكننا الإحتجاج في مظاهراتنا ومسيراتنا التي ستظل تصطدم بآذان صماء وعقول جوفاء لحكام أغبياء .

**ملاحظة هامة

تفضل الإستاذ الجامعي الفاضل صديقنا العزيز الدكتور صادق الصراف بإضافة هذا التعليق الهام جداً على الموضوع ، فشكراً له على إغناء الفكرة ومساهمته القيمة في إيضاحها:

نشرت بعض مواقع التواصل الاجتماعي بان الامم المتحدة تلغي شرعية الانتخابات اذا انخفضت عن نسبة معينة (40%). وهذا ليس صحيح مطلقاً . وهي مجرد اشاعة من قبل المجموعات التي تدعوا لمقاطعة الانتخابات في العراق . الامم المتحدة لا علاقة لها مطلقاً بهذه النسبة او اي نسبة اخرى . وهي تتعارض مع ميثاق الامم المتحدة الفصل الاول / المادة 2 / الفقرة 7 . لا وجود لحد ادنى في ميثاقها . وهذا موضوع داخلي للبلد الحق في تحديد نسبة ام لا . فلا وجود بالدستور العراقي ولا بقوانين الهيئة العليا للانتخابات اي حد لنسبة المقترعين . هذا وقد وصلت نسبة المقترعين في الاردن عام 2016 36% واعتبرت شرعية . ملخص القول " لا صحة لوجود نسبة الى حد معين تلغى الانتخابات " . مجرد اشاعات تخدم القوى الحاكمة حالياً . اما التزوير فانا لا اعتقد بوجوده واذا حصل فقد يكون غير مؤثراً على سير الانتخابات . مع الشكر والتقدير د. صادق اطيمش

عرض مقالات: