في مؤتمر للشباب والمثقفين الإيطاليين، عقد في الثامن من شهر حزيران / يونيو من عام 1975، في إحدى صالات السينما المعروفة، في العاصمة الإيطالية روما، ورغم خلافاته المعلنة مع الحزب الشيوعي الإيطالي حينذاك، أعلن الشاعر والمخرج السينمائي الإيطالي بيير باولو باُّزُوليني فيما الإنتخابات البرلمانية على الأبواب، عزمه المشاركة والتصويت لصالح قائمة الحزب الشيوعي الإيطالي.
بكل تواضع تحدث بازُوليني إلى الحضور موضحاً دوافع وأسباب منحه صوته للحزب. ونشرت صحيفة الحزب آنذاك "أونيتا- الوحدة"، نص حديثه, في عددها الصادر في العاشر من الشهر ذاته، وتحت عنوان بارز: ( أمنح صوتي للحزب الشيوعي الإيطالي).
والمعروف عن الشاعر والمخرج المبدع، وهو ما بقي في ذاكرة الشيوعيين، بل الإيطاليين أجمعين، ورغم خلافاته مع مواقف وسياسات الحزب الشيوعي الإيطالي، انه لم يتوقف أبداً عن تأكيد هويته الشيوعية، والتمسك بالماركسية. ولم يك حينها منتمياً أو عضواً في الحزب. كما أنه لم ينضم إلى أية كتلة أو قوة شيوعية، خاصة وأن الكثير من المجاميع المتياسرة إنتشرت في إيطاليا وأوروبا في تلك الحقبة.
ومن بين ما خطته يد الكاتب بازُوليني، في حديثه المذكور أنه قال "أعرف أن بلادنا تتسم اليوم، وبشكل مرعبٍ، بالوساخة. ولكن في مقابل ذلك، يوجد وجه آخر للبلاد. أنه وجهها الأحمر، هي بلاد الشيوعيين، رغم أنها ابتليت بالفساد وسواد الجهل والخنوع".
وشدّد على قوله "أصوّت للشيوعيين، لأنني أتذكر، ربيع العام 1945، وثم ربيع عامي 1946 و1947، ( وهو يقصد، هنا كفاح الشيوعيين وأنصارهم، في تحقيق الإنتصار على الفاشية الإيطالية في الحرب العالمية الثانية). وأصوت للشيوعيين لأنني أتذكر ربيع العام 1965، وعاميّ 1966 و 1967(أعوام الحركات الطلابية والشبابية، ودور الشيوعيين فيها)، لأنني في لحظات الكفاح، لا أريد قطعاً، أن ابتعد نحو أشياء أخرى".
وواصل بازُوليني حديثه مخاطباً الشباب قائلاً: "لكم أيها الشباب، وبشكل خاصٍ أولئك الذين بلغوا الثامنة عشر سنةً من العمر،، أتذكر أنه في أعوام 65، و66، و 67، وقد بان واضحاً أننا كنا نعيش واقع المقاومة، وليس التحرر بعد، كنا نعمل وبشكلٍ واقعي من أجل السلام، والتقدم. من أجل نشر قيم التسامح، بواقع يساري متجدد، يتأثر في داخله بكل ما هو جميل، وأفضل". "أتذكر وأعرف، أن الإمكانية الوحيدة للعمل والتحرك، وليس فقط التفكير النظري، ترتبط بتحقيق البديل الثوري الذي تعبر عنه الماركسية، مع وجود بديله الآخر". ثم "ولكنني أتذكر وأعرف أيضاً، أننا عشنا عناصر البديل الآخر، بشكل سلبيّ، كوننا مواطنين، لم تكن لنا حرية اختيار البديل. وبقيت مواقف رفضنا لسلطة البديل الآخر في ضمائرنا وأرواحنا، وأجبرنا هكذا على تحمله".
ويفصح الكاتب المبدع بازُوليني عن ما يقصده بالبديل الآخر حين يقول "أتذكر وأعرف، أن السلطة الإكليركية (المقصود الدينية- الكنسية)، في أعوام 1945، 1946، 1947, وثم في أعوام 1965، 1966، 1967، قد مثلت لنا الإمتداد أو الإستمرارية للسلطة الفاشية". ويواصل التوضيح "فالسلطة القضائية، نفسها، وكذلك مؤسسة الشرطة، وبقي أصحاب المال أنفسهم والمالكون في السلطة". "ولم تعد الدولة، لا فاشية ولا كنسية، ولكنها أصبحت أسوأ بكثير من الفاشية والكنسية". "أتذكر وأعرف، أنه وبلمحة (أو ضربة) واحدة، ظهرت معالم الإبادة الجماعية، كما تنبأ بذلك ماركس، في بيانه "المانيفستو- البيان الشيوعي). ولكنها – أي الإبادة- لم تعد بطابع إستعماري، بل أضحت إبادة وكأنها حالة انتحار للبلد برمته".
وبعد توضيحات أخرى، يصف خلالها بازُوليني طابع وسمات البديل الكنسي الجديد، يعلن "أعرف بعد كل ذلك، أن تراكم جرائم الرجال المتسلطين، الماسكين للسلطة، متحدين بغباء مفضوح في إطار أيديولوجيتهم المزينة للسلطة الجديدة، حولت البلاد إلى كيانٍ جامدٍ، بلا إمكانية للتطور، غير قادرة على التقدم".
وبعد كل ذلك السرد والتوصيف يوضح، وكأنها الصرخة المدوية، "إذاً أنا أصوت للشيوعيين، لان هؤلاء الرجال يختلفون، فهم شيوعيون يواصلون الصراع، من أجل الكرامة، كرامات العمال. أنهم جديون في العمل من أجل تحويل الأفكار، ومعتقداتهم العلمية إلى حالة من النمو والتقدم".
وبعد نشر هذا الحديث، تحدث بازُوليني، إلى أحد الصحفيين، موضحاً موقفه، بالقول "نعم قلت ذلك بحق الحزب الشيوعي، لأنه بقي الحزب الوحيد الذي يمثل بحق الطبقة العاملة، وأن وجوده ضمان لإيقاف، حالة التشظي العام، وأنه الوحيد، ورغم أخطائه، الذي يمثل الموقف المضاد (للوضع السائد)، والمعبر عن المطامح الشعبية، بعيداً عن الخنوع، والإنصياع".
بهذه وغيرها من النصوص، عبّر الشاعر والسينمائي الإيطالي بيير باولو بازُوليني، عن موقفه الواضح، داعياً المثقفين في بلاده لاتخاذ مواقف لصالح إنتخاب الشيوعيين، حملة رايات التقدم، والمساواة والعدالة الإجتماعية.
معروف أن بازُوليني، قتل مغدوراً في ظروف ما تزال غامضة في منطقة أوستيا الساحلية، في جنوب غرب العاصمة الإيطالية روما، وذلك في شهر تشرين الثاني من عام 1975. وكان بعد إنتقاله إلى العاصمة روما قادماً من شمال إيطاليا، وتركه مهنة التدريس عام 1949، قد إنتمى إلى صفوف الحزب الشيوعي الإيطالي، وبدأ مرحلة من حياته غلبت فيها إنتاجاته الإبداعية والأدبية. وكان ذلك قبل أن يغادر صفوف الحزب، ويتعرض للغدر.

عرض مقالات: