(أن التمييز ضد أي شخص على أساس الإعاقة يشكل انتهاكا للكرامة والقيمة الانسانية المتأصلتين في الفرد) (الامم المتحدة)
آلمني جدا منظر احد المتقاعدين، فاقد ساقه فيضطر لصعود درج دائرة تقاعد في احدى محافظات العراق زحفا، مشهد وحالة لايمكن تصورها في عالم اليوم. البناء هو انتاج اجتماعي لسد حاجات بشرية وانسانية، وقد تكون هذه الحاجات اجتماعية او فردية او أسرية ولكن هذه الحاجات لاتقتصر بالتأكيد على الانسان القياسي النموذجي فقط، فهناك فئات اخرى من الناس لها حاجات خاصة.
أحد اهم واجبات المهندس المعماري الاجتماعية والاخلاقية هي تقديم المشورة، ومنها جاء لقب الاستشاري، فعليه تنبيه وارشاد المجتمع ومؤسساته الى الحاجات التي لا يعيها، والمجتمع يتكون من مئات الآلاف من الافراد المختلفين، فبينهم الطويل والقصير والمتين والنحيف وهناك الرجل وهناك المرأة...الخ ومن بين افراد المجتمع يوجد افراد لايمتلكون اعضاء كاملة مثل الافراد الاخرين، اما بالولادة او فقدوها لاحقا بسبب حوادث او امراض او نتيجة الحروب والكوارث. وفي العراق ونتيجة سنوات الحروب وعمليات القتال والارهاب نجد هناك نسبة عالية من هؤلاء الافراد في المجتمع.
في آخر إحصاءات وزارة التخطيط في العراق والذي أجرته عام 2016، أعلنت الوزارة أن أعداد ذوي الإعاقة من الذكور بلغ 1375063 شخص ومن الاناث 776721 ليصبح العدد الكلي 2151784، في حين يَرِد في التقارير الدولية أن نسبة ذوي الإعاقة في العراق تجاوزت 12% من السكان، أي أن عددهم يتجاوز 4 ملايين شخص. وبقراءة سريعة للإحصاء الذي أجرته وزارة التخطيط، يُدرك القارئ أن في العام 2016 شهد العراق عمليات عسكرية كبرى، الأمر الذي استثنى محافظات عديدة في العراق من هذا الإحصاء. وهناك توقعات لزيادة هذا العدد نتيجة ضحايا الألغام الأرضية، والذخائر غير المتفجرة، والتي تُقدر بالمئات.
أمانة بغداد وغيرها من المحافظات لم تُعِر أي اهتمام لهذه الفئة، ولم توفّر الطرق المناسبة السالكة لهم، ولم تُنشئ مناطق خاصة لعبورهم الشوارع، ولم تسعَ بأي شكل من الأشكال في جعل البيئة المعيشية والسكنية صديقة لهم، في الوقت الذي لا يخفى فيه حجم الصعوبات التي تواجه الأفراد ذوي الاحتياجات الخاصة في ممارسة أبسط حق من حقوقهم وهو التنقل بحرية وأمان وسهولة في المناطق التي يعيشون فيها أو في ابنية المؤسسات التي يراجعوها لقضاء مصالحهم.
العمارة ليست ابداع جمال واجهات الابنية أوزخرفة الشناشيل و اشكال الاقواس الاسلامية وغيرها فقط، بل هي بالاساس مهنة تطورت تاريخيا ضمن التقسيم الاجتماعي للعمل لسد حاجات البشر ومجتمعاتهم، ويمكننا تلخيص العمارة بأنها مهنة البحث عن حلول مبتكرة، في مجالات التوتر بين عملية الإنشاء وتلبية احتياجات المعيشة والعمل، واخيرا لتحقيق الأهداف الجمالية، لتخلق بيئة بنائية. واحد اضلاع مثلث نشاط مهنة العمارة لخلق بيئة بنائية هو تلبية احتياجات المعيشة والعمل.
واصحاب الإعاقة لهم احتياجات خاصة للمعيشة والعمل، على المباني والمرافق الانشائية تلبيتها، لذا من حقنا ان نطرح السؤال على أنفسنا: هل نجح المهندس المعماري العراقي في ارشاد المجتمع لمراعاة هذه الحاجات الانسانية؟
في النهاية نجد ان ترخيص واجازات البناء في العراق تمنح، للمباني والمرفقات العامة بوجه خاص، دون مراعات تلبية حاجات جميع افراد المجتمع، بل يتم التركيز على تلبية حاجات فئة واحدة وهي فئة المواطن النموذجي القياسي الذي يمتلك العافية والقوة والقدرة لتجاوز المعوقات وفروق ارتفاعات مستويات الابنية ومرافق البناء، وبهذا يتم حرمان فئة كبيرة من المواطنين من التمتع بحريتهم، فعلى المهندسين عراقيين، الذين يتفاخرون بانجازاتهم، ان يقوموا بدورهم الاجتماعي ويقدموا مقترحات لمشاريع قوانين ملزمة بهذا الشأن لاقرارها من قبل المؤسسات المعنية، وفي العادة يجب على الجمعيات والنقابات الهندسية ان تلعب هذا الدور.
تؤكد الاتفاقات الدولية واهمها اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2006 على ضرورة ان تضمن الدول جميع الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية لجميع الأشخاص من ذوي الإعاقة دون تمييز بين أي نوع من الإعاقة. وعليها القيام بتوفير السلع والخدمات والمعدات والمرافق المصممة لخدمة المجتمع بشكل عام بحيث تلبي متطلبات الاحتياجات المحددة للاشخاص المعوقين.
وتنص المادة 32 من الدستور العراقي على:
“ ترعى الدولة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع، وينظم ذلك بقانون.”
لذا اصدر المشرع العراقي: “قانون رعاية ذوي الاعاقة و الاحتياجات الخاصة رقم 38 لسنه 2013” واهم ماجاء فيه هو تشكيل هيئة اسمها “هيئة رعاية ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة” ترتبط بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية وبهذا فقد قام المشرع العراقي بالتعامل مع المسألة بشكل مبسط جدا، فبالرغم من ان المادة 2 ثانيا تنص على تهيئة مستلزمات دمج ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة في المجتمع لكن القانون لم يتطرق الا لربط الهيئة (تشكيل بيروقراطي) بوزارة العمل والتفصيل في وضع ادارتها البيروقراطية دون التعمق ووضع بنود الزامية لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة وخاصة في تحوير المباني الحالية لتخدم حاجاتهم ووضع متطلبات للابنية الجديدة لتفي بذلك، وبهذا القانون الغير ملزم والهلامي تم تحجيم القضية واصبحت تتركز على المعونة الاجتماعية واصدار بطاقة اعانة اجتماعية فقط.
بينما نجد في دول العالم اهتماما واضحا وجديا بمسألة المواطنين من ذوي الاحتياجات الخاصة، فقد حصلت البشرية على افضل الخدمات من العديد من ذوي الاحتياجات الخاصة ولولا عناية مجتمعاتهم بهم لخسرت هؤلاء المبدعين ومن هؤلاء عالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هوبكنغ والموسيقار الالماني بيتهوفن وطه حسين الكاتب الكبير وكذلك الاديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، ف “المعاق” ليس هو الشخص بلا أطراف بل “المعاق” الحقيقي هو الذي ليس لديه هدف يسعى لتحقيقه فكم شخص من “ ذوي الاحتياجات الخاصة “حقق ما لم يحققه شخص سليم.
يجب على المجتمع بكل تأكيد الاهتمام بهم وتحويلهم من فئة تثير العطف والشفقة إلى فئة منتجة من خلال توفير بيئة تناسب احتياجاتهم وقدراتهم. ففي بلد مثل المانيا تنص المادة الثالثة النقطة 3 من القانون الاساسي على :
“لايجوز ان يميز احد او يضار احد بسبب جنسه، او نسبه، أو عرقه، او لغته، أو وطنه ومنشئه، أو عقيدته، أو رؤيته الدينية أو السياسية. ولا يجوز أن يضار أحد بسبب كونه معاقا.”
وعلى هذا الاساس تم تشريع عدة قوانين وبمستويات عديدة في المانيا فأضافة لقانون الرعاية الاجتماعية هناك مجموعة من القوانين والتعليمات بشأن البناء مخصصة لمراعاة ذوي الاحتياجات الخاصة، فيتم انجاز تصاميم وتشييد المباني على اساس تشييد مايسمى المباني الخالية من العوائق: “barrier-free”
فيقول القانون الالماني الذي يخص البناء:
“...يجب تصميم المباني المدنية الجديدة وكذلك عمليات التغيير او التوسيع المدنية الكبيرة للأبنية الاتحادية، بما في ذلك الهيئات والمؤسسات والجمعيات الاتحادية العامة، لتكون خالية من العوائق حسب القواعد الهندسية العامة المعترف بها. ويمكن الحيود عن هذه المتطلبات إذا وجد حل آخر يفي بنفس القدر بمتطلبات إمكانية الوصول الى الخلو من العوائق...” واستخدم المشرع الالماني مصطلح المباني المدنية لتمييزها عن المباني العسكرية. اما بالنسبة لعبارة “ القواعد الهندسية العامة المعترف بها” فقد تم وضع مواصفات ومقاييس هندسية وهي DIN 18040، وهذه تنقسم الى ثلاثة اقسام:
1. القسم الاول يخص المباني العامة المفتوحة للعامة،
2. القسم الثاني يخص المساكن،
3. القسم الثالث يخص اماكن المواصلات والاماكن المفتوحة.
و حسب القسم الاول من ((DIN 18040 تم تبويب متطلبات البناية حسب وظائفها كما يلي:
1. التكامل والاندماج الحضري
وهذه الباب تشمل متطلبات تصميم وتشييد مداخل البناية وعلاقة المداخل بوسائل النقل العامة والخاصة، وكذلك علاقة مدخل البناية بالتضاريس المحيطة بالموقع،
2. أنظمة وعناصر التوجيه والإرشاد
وتشمل علامات الدلالة والتوجيه داخل وخارج المبنى واستخدام التأثيرات البصرية والضوئية والصوتية وتنوع المواد للدلالة والارشاد،
3. الممرات ومرافق وسبل الوصول الخارجية
وفيها متطلبات الابعاد والمساحات ومنع السقوط وميول المنحدرات واطوالها المسموح بها
4. الممرات ومناطق وسبل الوصول الأفقية في داخل البناية
5. المنحدرات في داخل وخارج المبنى
6. السلالم والعتبات في داخل المبنى وخارجه
7. المصاعد
8. الابواب
9. سبل وانظمة الانذار والاخلاء
10. شبابيك الخدمة، صرافات النقد، شبابيك السيطرة، مراكز المشورة وغرف الانتظار
11. المعدات والمرافق داخل وخارج البناية
12. معدات الخدمة والتواصل
13. الشبابيك والمساحات الزجاجية
14. الغرف الخارجية
ان الابنية الخالية من العوائق تمنح نوعية حياة افضل وتلبي حاجة الحفاظ على الكرامة والقيم الانسانية التي يكفلها الدستور والقوانين والاعراف الدولية، ليست فقط للأشخاص من ذوي الإعاقة، ولكن أيضا للمسنين وللأطفال والآباء والامهات الذين يحملون اطفالهم او يصطحبونهم بواسطة عربات وكبار السن والأشخاص الذين يعانون من قيود مؤقتة على الحركة أو الإدراك.
والمهندس المعماري الذي يخطط لمبنى عليه وضع الخطوات الاولى لتصميم مبنى خال من العوائق، والذي -لا يقتصر على الاستدامة فقط - فستكون له مدة استخدام اطول. ويجدر بالذكر ان البناء الخالي من العوائق يكون مستداما اقتصاديا أيضا، فمع الزمن ستنخفض جاذبية وقيمة الابنية الأخرى التي لاتحتوي على متطلبات البناء الخالي من العوائق، وإذا تم دمج هذه الرؤية في التصميم منذ البداية، فستتوفر للمعماري امكانية الحصول على حلول فعالة من حيث التكلفة. كما سوف لن يشكل البناء الخالي من العوائق اي تقييد للابداع والابتكار.
ـــــــــــــــــــــــ
المصادر:
- الامم المتحدة، اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، 6 كانون اول 2006
- قانون رعاية ذوي الاعاقة و الاحتياجات الخاصة رقم 38 لسنه 2013 http://iraqld.hjc.iq:8080/LoadLawBook.aspx?SC=211120131335898
- البوندستاغ الألماني، القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية، طبعة النص الصادرة وفق التعديل الأخير في 2019 مارس 28، النسخة العربية عن دار نشر البوندستاغ الالماني.