تصدى ويتصدى-  الاف من العراقيين، بمستويات مختلفة، للشأن الوطني العام، وكتب العشرات منهم، والسياسيين الفاعلين خاصة، سيّـراً ومذكرات عديدة  الى جانب احاديث وحوارات  تلفزيونية وغيرها، وقد بات كل ذلك مصادر تاريخية يلجأ اليها باحثون ومتابعون، كما مناكفون،  فينتقون منها، ودون تمحيص احيانا، اعتمادا على الثقة العفوية من جهة، وضعف الاهتمام بالدقة، وأختصارا للوقت أوالجهد، وربما كلاهما ..

   وفضلا عن الاهتمام الشخصي بما كتب – ويكتب – في هذا المجال، وفرتْ ليّ الاسابيع القليلة الماضية، وبسبب التقييدات التي فرضتها جائحة "كورونا" الوبائية، فرصاً زمنية اكبر لقراءة - أو أعادة قراءة- الكثير مما يتوفر من كتب وسير ومذكرات، وكذلك مشاهدة - أو اعادة مشاهدة – العديد من اللقاءات والحوارات التوثيقية، التلفزيونية ذات الصلة، بسياسيين، معارضين بارزين  لأنظمة الاستبداد.. وبوطنيين مشهود لهم، وسواهم، من مختلف المشارب، والاتجاهات.. أقول ذلك لأصل الى تأكيد القناعة بما كتبته مطلع عام 2019  بأن ثمة الكثير من الملاحظات الانتقادية التي يمكن ان تسجل على ما يُكتب من"تاريخ" ويوثق من "أحداث" تطغي عليها الشخصنة، والـ "أنـا" المضخمة، لحدود بعيـدة، وفي غير سياقاتها أصلا.. (*)

    واذا ما كان هناك قاسم مشترك بين جميع تلك المؤلفات، فهو تأكيد اصحابها المبرز، بأن ما يأتون به هو " يخدم الحقيقة والتاريخ" وكأن في الأمر محاولة استباق لمنع "التشكيك" واحتراز من "تهمة" الذاتوية  في تسجيل وتوثيق الاحداث والسيّر والادوار. وأزعم بأن ذلك التوكيد المبالغ به قد يقود المتفحصين الى استنتاج العكس تماما. خاصة وقد تم أعتماد بعض الوثائق المنتقاة، او اجتزاء فقرات ومضامين، مكتوبة أو منقولة شفاهاً،  تدعم وتفيد ما يُـبتغى منها، ويُـرادُ لها..

    كما من السهل ايضا الوصول الى قناعة بأن كثيراً غالباً من تلكم الذكريات والسيّر توخت جمهرة محددة من الناس، وتتوجه بشكل رئيس الى القراء والمتابعين الذين عملوا او تشاركوا في العمل السياسي او الوطني مع كتاب السيرة، ومؤلفي الذكريات، ويعلمون بما أجترحوه من مواقف مشرفة، كما خاطئة، أو عليها ما عليها من خلافات وتفاسير جاءت مصحوبة بتوضيحات أو أعترافات خجولة بالاخطاء، والخطايا حتى، وترحيلها بصراحة أو توريةٍ الى آخرين، مع بعض الاستثناء هنا وهناك .

    لقد بالغ العديد من اصحاب السيّـر والمذكرات، التي شملت العقود الستة الماضية، خاصة، بالانتقاص والقاء اللوم على من تخالف أو أختلف معهم في الرؤى والمواقف، وفي التاريخ السياسي والنضالي المشترك، برغم ان مسيرة ذلك التاريخ، والصحبة النضالية امتدتا عقودا بعض الاحيان، تعرضوا خلالها لشتى اشكال القسوة والعنف والسجون من اجهزة الانظمة الارهابية. وقد تحملوا ذلك، منفردين ومجتمعين، بصلابة وتضحيات تسجل للكثير منهم بأمتياز.. غير انهم لم يستطيعوا، في ذات الوقت، تجاوز التنافس الشخصي، وردود الافعال الذاتية، وقبول تبايّن القناعات، واهمية الجدال.. ولا نقلّـل هنا مطلقاً من شؤون الدفاع عن النفس، وتأرخة الاحداث، وتبيان المواقف وتحديد المسؤوليات، والتصدي للتجاوزات والاتهامات.

      ووبالارتباط مع الفقرة السابقة، لعل من المهم ان نشير هنا ايضا الى خطالة لى العمل محاكاة الحاضر بالمفاهيم والقيم السابقة، والاستناد عليها في الكتابة "للتاريخ" دون الالتفات لجملة مؤشرات من اهمها الظروف السياسية والاجتماعية والمعرفية التي كانت تسود في حينها، ومتانة ورسوخ التجربة، ومستويات الأدراك والوعي، وشيوع التزمت بأحتسابه "ثباتاً مبدئيا" .. دعوا عنكم التقديس الايديولوجي، والثورية الحقيقية او المدعاة، ومزاعم امتلاك الحقيقة..

     لقد كان حرياً بنا طبعا أن نشير لأمثلة ملموسة، ولأسماء بعينها، لتأكيد ما ندعيه من أراء ورؤى. ولكن من دوافع الابتعاد عن ذلك – برغم توفر الكثير الكثير منه- تأتي قناعتنا بأن طرح ذلك، الآن، سيثير المزيد من الغلّـو والأحن، والعصبيّات، خاصة والبلاد العراقية وشعبها تحتاج لتضامن مجتمعي، وترفّع أنساني عن الخصوصيات والصغائر، في ظل الأزمة – بل الأزمات- الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي ما برحت تشيــع المزيد من الأحباط السائد، والمتراكم أصلا، من السياسة والسياسيين .. كما من الدوافع الاخرى لأقتصار كتابتنا هذه على العموميات، وليس الملموسيات، ثمة "خوف" من اقلام وألسن تنتظر أيّما سبب ورأي، أوموقف مخالف، لتبيح لنفسها الدفوعات المتشددة، أو الانفعالات  في الردود والتحاور والجدال.. فالوسطية باتت بعيدة - كما نرى- في زحام الاتهامات المتبادلة، وتصيّد الأخطاء، والتشنجات وتلك من أشد العلل، وأقساها على الاصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية..

   ان ما يؤلم اكثر في هذه الحال الذي نتوقف عندها، هو قيام أعلاميين ومتابعين وغيرهم بقراءات مسبقة التقييم، لما تحتوية الذكريات والسيّر والشهادات ذات الصلة، وعرض بعضها بعيون "تبدي المساويا" ولدوافع مختلفة قد يكون من بينها حب الأثارة، وحسابات واصطفافات شخصية، او مواقف مختلف عليها في أحداث هنا ووقائع هناك، وخاصة حين يجري الانتقاء والاجتزاء، بل وحتى تشويه الحقائق، ولحد تزييفها احيانا. والأكثر ايلاما ان يكون بعض المقصودين هنا،  مشاركين بهذا القدر او ذلك في قضايا وتعقيدات الأمس التي يتبرأون منها اليوم..

      كما من الجدير بالأشارة اليه ايضا، هو ان مؤلفات السيرة والذكريات ، تباينت في اسلوبها، وفي لغتها، وسياقاتها، فكان بعضها يرقى الى شكل من اشكال الكتابة الادبية، فيما راح بعض آخر أشبه بيوميات مغرقة بتفاصيل ليست مهمة لغير من يعرف عنها، او مشمول بها.. وفي كلا الحالتين، وما بينهما، نزعم بأن ثمة طموح يرجوه الكثيرون لأن يكون القادم من تلك الكتابات  اكثر اهتماما بالشأن العام، ومحاولة الأبتعاد عن "الأنـا" إلا في مكانها وزمانها الطبيعيين، لكي لا تكون مقيتة، بل ومذمومة حتى .. وحسناً ان نستبق الغيـر ممن قد يفهم بأننا ندعو الى الابتعاد عن الجدال والتوثيق، فنقول، على العكس، ان ذلك الجدال والحوار أكثر من مرجوٍ ومطلوب، ولكن على أسس حضارية، وبعيدا عن التزمت والتدليس واثارة البغضاء..

    وفي الأخير نعيد التوكيد بأن هنالك - حول ما تحدثت عنه الفقرات اعلاه- أمثلة عديدة ووقائع كنا شهود عيان على بعضها بهذا القدر او ذلك، أو مطلعين بشكل وثيق على العديد من تفاصيلها.. ولكن عدم الأتيان بها – كما سبق القول - جاء محاولة  في منع المزيد من الاحباط، وأبتعادا عن المناكفات السياسية الضيقة. وحاشى بالطبع ان يكون ما تقدم من ملاحظات يهدف للأنتقاص من تاريخ شخصيات بارزة في تاريخ العراق الحديث، وساسة ميامين، ومناضلين وطنيين، اصابوا، أو أخطأوا دون عمد،  وكان الكثير منهم يحملون أرواحهم على أكفهم، لغايات نبيلة، وطوال عقود مديدة، عارضوا فيها السلطات والانظمة الجائرة التي حكمت البلاد العراقية.

 (*) الموضوع المشار له موجود على مواقع عديدة في شبكة الأنترنيت بعنوان "هوامش وملاحظات عن بعض مؤلفات السيـرات الشخصية، والمذكرات.. وعن بعض كتابها، وكتبتها!".

12/ 8/ 2020

عرض مقالات: