تُفهم الاشتراكية أحياناً بشكل مختلف، هل هي نظام اقتصادي واجتماعي جديد مُحدد بدقة؟ أو هي الحركة التي تبحث عن مجتمع بديل يتجاوز الرأسمالية؟
كلا الفكرتين موجودتين، وواضح من أنه لا يمكن تصميم الاشتراكية على لوحة الرسم.
في تأريخ الفكر السياسي صمم المثقفون دائماً (الدولة المثالية) منهم توماس مور في (اليوتوبيا)1516، توماسو كامبيلا في (دولة الشمس)1602، فرانسيس بيكون في (اتلنتا الجديدة) أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وأُضيفت تصميمات أجتماعية بديلة للاشتراكيين الاوائل من بابوف، فورييه، سان سيمون، برودون، روبرت أوين وغيرهم.
ومع ذلك فقد عانوا في الغالب من التباين والتناقض بين ما ينبغي وما يجب أن يكون، حيث تميزوا تأريخياً بالتقليد الفكري المثالي.
ثورية أفكار كارل ماركس وفريديك إنجلز، أنهم حاولوا تحديد القوانين التأريخية للحركة وأسبابها المضادة بالطريقة المادية الديالكتيكية(الجدلية)وأن الاشتراكية و(الشيوعية)هما من تطور التأريخ الحقيقي نفسه.
وفقاً لفريديك إنجلز، اختلفت اشتراكيتهم العلمية عن أسلافهم الطوباويين. وهذا ما يجعل الديمقراطية خاصة بالاشتراكية، على النقيض من متغيرها الطوباوي.
ووفقاً لماركس وإنجلز، فأن الرأسمالية تخلق الظروف للمجتمع الاشتراكي بقوانين تنتزع من الرأسمالية المتسمة بالقانون العام للمنافسة والتراكم الرأسمالي وميل رأس المال الى التركيز والمركزية بشكل متزايد في أيدي عدد اقل وأقل من الناس (شركات مساهمة في وقت لاحق).
هذا الاتجاه الى الاحتكار، وأنشاء وحدات رأس المال أكبر من أي وقت مضى، يكون الاساس ليتم تحويل الشركات الكبيرة في الاشتراكية الى ملكية مشتركة ولا تُصادِر المنتجين المستقلين، وفيها تعمل على تطوير إمكانات الحرية في المجتمع، تخفيضات جذرية في ساعات العمل، عالم من الحرية مع مزيد من الوقت للاعمال الاخرى ومنها المزيد من الوقت للقاء الاصدقاء، تعلم لغة أخرى، المزيد من الانتاج الثقافي النشط ومزيد من الوقت للحياة الاجتماعية..الخ
الاشتراكية هي على جدول الاعمال، ففي الأزمات الكبرى للرأسمالية المستندة على الثروة ورأس المال الزائد الذي يبحث عن الاستثمار وما الى ذلك، هي التي تهدد بإغراق الرأسمالية في البربرية.
قوانين الحركة الرأسمالية تخلق الشروط الموضوعية للتحول الاشتراكي من خلال عمل ملموس ضد الرأسمالية، فهي لا تنهار من تلقاء نفسها، بل يجب التغلب عليها من خلال حركة الطبقة العاملة المأجورة. والزوال الطبقي، ممكن تَصوره كما جاء في البيان الشيوعي.
لفترة طويلة أفترض ماركس وإنجلز أن الاشتراكية ستُنفذ في الدول الرأسمالية المتطورة، أي في إنكلترة أو الولايات المتحدة أو ألمانيا.
في نهائيات حياتهم أدرك ماركس وإنجلز فقط،أن الاشتراكية تنتصر في بعض الاحيان في دول ليست بهذا التطور أي دول المحيط الرأسمالي، ذات الطابع الفلاحي الغالب، التابعة والمتخلفة مثل روسيا عام 1917،الصين عام 1949،وكوبا عام 1959 وغيرها،أي حيث كانت ظروف تحقيق الاشتراكية سيئة الى حد ما،التي كان على هذه البلدان عن تعوض عن التصنيع،كشرط مسبق لتحريرها من الاستغلال الامبريالي من قبل المراكز الرأسمالية وفي ظل أصعب الظروف وقدر كبير من المعاناة الاجتماعية،وجادل لينين، بأن المواقف الاشتراكية ـ الثورية سوف تنشأ عندما تكون سلسلة التبعية الامبريالية هي الحلقة الاضعف،ومايؤكد ذلك حقيقة وصول اليسار الاشتراكي الى السلطة في اليونان عام 2015،ومع ذلك لايمكن وضع قانون عالمي عام،و يمكن تصورأحتمالات كما هو الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى من سيطرة قوى جزئية راديكالية وأشتراكية في قسم منها في السنوات القليلة الماضية،والتي ستوسع نطاقها بشكل كبير في أماكن أخرى.
ماهو حاسم هو أدراك أن خلفية التأريخ الحقيقي في تدفق مستمر، لا يمكن تصميم الاشتراكية على لوحة الرسم.
كان هذا الادراك هو الذي جعل ماركس وإنجلز يشككون في أي محاولة لرسم المجتمع الاشتراكي بالتفصيل.
الى الآن لايستطيع أولئك الذين يبحثون عن الاشتراكية كبديل للراسمالية أختيار الظروف التي سيحدث فيها مثل هذا التحول.
لهذا السبب، كانت الافكار الاشتراكية الجاهزة نادرة في الحركة العمالية الاشتراكية، والتي كانت تستند الى أفكار ماركس وإنجلز.
الشكل المُحدد للاشتراكية يعتمد على حالة التنمية،وتوازن القوى الداخلي والخارجي،وكما أعلن ستالين (الاشتراكية في بلد واحد) بعد فشل الثورات الاشتراكية في الغرب حوالي عام 1923وبعد وفاة لينين عام 1924 لايمكن ان توجد،وستستخدم الدول الرأسمالية كل موارد قوتها لاسقاط الاشتراكية،تماماً كما تحالفت الطبقات الحاكمة في فرنسا والمانيا في حوالي عام 1871لسحق (كومونة باريس)عسكرياً،وداهمت الدول الرأسمالية بعد عام 1917 ثم 1941 الاتحادالسوفيتي في "حملة صليبية"، مثلما دعمت الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي الانقلابات العسكرية وعمليات القتل الجماعي ضد الحكومات الاشتراكية المنتخبة ديمقراطياً والحركات الشيوعية في جميع انحاء العالم،بدءاً من أيران عام 1953(الاطاحة بحكومة مصدق) الى أندونوسيا عام 1965/1966 (سوكارنو)ومروراً بشيلي عام 1973(سلفادورأليندي)،أو المحاولات المتكررة لاغتيال (فيدل كاسترو) في كوبا،او (توماس سنكارا) في بوركينافاسو عام 1987.لذا فإن الحقيقة ملموسة دائماً. الحركة الاشتراكية تعمل في سياق تأريخي ملموس وفي ظل ظروف لم تختر نفسها.
الاشتراكية تصف ايضاً نظاماً وفكرة محددة بوضوح لانشاء مؤسسة جديدة للاقتصاد والمجتمع.
تُفهم الاشتراكية بشكل عام على أنها تعني نظاماًأقتصادياً وأجتماعياً يتغلب على الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الانتاج وتحويلها الى ملكية عامة.
في المانيا كانت فكرة التنشئة الاجتماعية شائعة وكان لها تأثير جماعي بعد كوارث الرأسمالية.
وكما معروف تمت خصخصة الملكية العامة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية بعد عام 1990وفُرضت عليها بهيكل ملكيتها على الانضمام الى المانيا الاتحادية.
والسؤال بالطبع هو، مالمقصود بنهضة الاشتراكية اليوم؟
الافكار الاشتراكية تشترك في انتقاد الرأسمالية، لكنها غالباً ما تختلف اختلافا كبيراً.
يُقال أحياناً أن العديد من الامريكيين لا يفهمون الاشتراكية الا كنموذج دولة الرفاه الاسكندنافية، اي نظام مع أعادة توزيع قوي، وأستثمارات عامة عالية ووجود نقابي عالي، والتعليم المجاني والتأمين الصحي وشبكة اجتماعية قوية مع أنظمة تأمين ضد البطالة والشيخوخة.
من ناحية أخرى كما في الصين، تفهم الاشتراكية على الطريقة الصينية والتي تعني أقتصاداً مختلطاً تتحكم فيه الدولة على الارض وجزء كبير من الشركات، ولكن وبخلاف ذلك في نفس الوقت يحافظ على مبادئ اقتصاد السوق، ويُدرك النُقاد الانجازات الواضحة بلاشك في التنمية والحد من الفقر، لكنهم يطرحون السؤال حول الكيفية التي ينبغي بها إطلاق العنان لقوى السوق وعدم المساواة في الثروة الاجتماعية.
ومع ذلك فإن تنوع أفكار الاشتراكية المعاصرة ليس ضرراً بالضرورة. نحن اليوم في بداية ولادة الاشتراكية كبديل للرأسمالية وفي بداية نقاش نظري وإعادة استرجاع النظرية والمفهوم الاشتراكيين. وهذا يشمل السؤال عمن يكون أو يجب أن يكون مالك الاشتراكية: أي اشكال لملكية في أي مرحلة من مراحل التنمية الاجتماعية تكون ذات معنى؟
كيف ينبغي التفكيرفي العلاقة بين ممتلكات الدولة و(التعاونيات)والملكية الخاصة؟
هل هناك حاجة لاشكال السوق في الاقتصاد الاشتراكي العام؟ أم ان التقدم التكنولوجي والحاسبات والبيانات الضخمة تسمح بالتخطيط المركزي للاقتصاد بطريقة لم تكن متصورة بالنسبة للدول الاشتراكية في القرن العشرين.
إذن هل لدينا المتطلبات التقنية الاساسية اليوم لحل مشكلة الحساب الاشتراكي، التي أثارها الاقتصادي الليبرالي الجديد في المدرسة النمساوية (لودفيغ فون ميزس) ضد الاقتصاد السوفيتي في عشرينات القرن الماضي؟ هل هناك خيارُ للتخطيط السيبراني* خارج السوق؟
قد تختلف الاجابات من دولة لأخرى، ومن منطقة لأخرى نظراً لمستويات التنمية والثقافات المحدودة التي نَمت تأريخياً.
بلاشك ستكون هناك نماذج مختلفة ستعملُ معاً. السؤال الحاسم اليوم وفيما يتعلق بالصين، هو ما أذا كان يمكن إنتاج مساحة مناقشة مشتركة للأسئلة المُلحة في المستقبل، والتي تقوم على الاعتراف الاساسي بحقيقة أن هناك طرقاً مختلفة جوهرياً لتحقيق الهدف.
الانتاج في ظل الاشتراكية:
يجب لمن يريد مناقشة الاشتراكية أن يوضح أولاً مسألة إعادة تنظيم الانتاج. هناك مجموعة واسعة من مفاهيم الاشتراكية التي تحتاج الى إعادة تقييم. يبدأ بأفكار اشتراكية ديمقراطية كلاسيكية عن الاشتراكية، والتي ترقى إلى (الديمقراطية الاقتصادية) المتوافقة مع مفاهيم الاميركي بيرني ساندرز، الذي رشح نفسه مؤخراً عن الحزب الديمقراطي للرئاسة الاميركية.
ويستند النقابي السويدي (رودولف مايدنر) الى مزيج من إعادة إصدار أموال الموظفين ونماذج المشاركة النقابية وكما تم تقديمها في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
كانت فكرة مايدنر، ان يحصل أصحاب الاجور في الشركات الرأسمالية الخاصة على حصص في الشركات التي يعملون فيها كجزء كبير من أجورهم.
الفكرة الاساسية هي أن يصبح الموظفون عاجلاً أم آجلاً مالكين للشركات التي يعملون فيها. يتم التحكم في صناديق التقاعد من قبل النقابات وسوف يصبح الملاك الرأسماليون فائضين عن الحاجة، وهكذا تصبح الشركات الرأسمالية الخاصة السابقة تحت إدارة ذاتية.
السؤال هنا، فيما إذا كان ذلك مرغوباً. سيظل السوق على حالهِ، لأن الشركات التعاونية ستستمر في التنافس في السوق العالمية وتخضع للمنافسة طالما أستمر ذلك.
هذه المقاربات الاكثر شمولاً والمُكملة لنهج ساندرز التي تنقل مفاهيم (رودولف هيلفردينغ) للاشتراكية الى الوقت الحاضر.
كان هيلفردينغ سياسياً ديمقراطياً ومُنظراً اجتماعيا، وقام نيابة عن مجالس العمال والجنود في مؤتمر مجالس الرايخ عام 1918 بصياغة مفهوم الديمقراطية في المجتمع من خلال (الاقتصاد المختلط).
كانت فكرة هيلفردينغ، أن المجتمع يجب ان يتحكم في الاستثمارات، وللقيام بذلك، يجب على المرء تحديد (الصناعات الناضجة)، أي تلك القطاعات الاقتصادية التي لاتزال في أيدي القطاع الخاص المُسببة في أضرارٍ أجتماعية معينة.
وأعتقد هيلفردينغ أن المجتمع سيطر على الاستثمارات من خلال تأميم صناعات التعدين (الفحم والصلب) ومن خلال التخصيص المُستهدف للفحم والصلب لشركات صناعية بأسعار غير سوقية، يمكن فيها التحكم في ماهية الاستثمارات المفيدة وغير المفيدةأجتماعياً.
في نهاية المطاف، يسيطر المجتمع على المزيد من التطورمن خلال الدولة.
يجب تحويل مفهوم هيلفردينغ اليوم الى ظروف رأسمالية السوق المالية عبر الوطنية وإعادة التفكير فيها. يجب مناقشة كيف ينجح المجتمع الديمقراطي في الشروع في الاستثمارات اللازمة أجتماعياً للتعامل مع أزمة المناخ. ماهي الصناعات الناضجة اليوم؟ سابقاً كانت صناعة التعدين، اليوم وبعد أزمة 2007 وما تلاها، حين تمَ إنقاذ البنوك الكبرى بأموال الضرائب لمنع الانهيار المالي، كانت في الواقع فرصة ضائعة. كان ينبغي على الدولة أن تحول هذه البنوك ـ كصناعات ناضجة ـ الى شركات خدمات عامة من أجل السيطرة على صناعة السيارات، على سبيل المثال يمكن إنتاج مركبات للطرق الوعرة الاكثر ربحية، ويمكن تعزيز تحويل صناعة السيارات الى مفاهيم التنقل الصديقة للبيئة.
تنتمي المفاهيم الاشتراكية للديمقراطية الاقتصادية ونهج هيلفردينغ الى البيئة الايديولوجية الكلاسيكية للاحزاب الديمقراطية الاجتماعية قبل تحولها النيوليبرالي. بالإضافة الى ذلك هناك أيضاً مفاهيم الاشتراكية التي تركز على التخطيط الديمقراطي أو الاشتراكية السيبرانية.
تستند الاشتراكية السيبرانية على إفتراض أنتقاد (لودفيغ فون ميزس) للنموذج الاقتصادي السوفييتي، كونه مقبولاً تماماً. ففي عام 1920 أنتقد ميزس في مقالهِ "الحساب الاقتصادي في الكومنولث الاشتراكي" أنَ الاقتصاد الاشتراكي لايمكن أن يكون فعالاً، لأن أسلوب الانتاج الفعال كان يعتمد على تركيبات مختلفة جداً لعوامل الانتاج والعمل والتكنولوجيا وما الى ذلك.
لهذا السبب، لا يمكنها التنافس مع اقتصاد السوق الرأسمالي والخصخصة الفعالة المفترضة لعوامل الانتاج. عالمنا الحقيقي الآن لا يعمل كنماذج حسابية رياضية، غير متوازنة كما يتخيل الارثوذوكسيون الكلاسيكيون الجُدد.
ويعيش الناس في مجتمع ملموس من المؤسسات ونظام بيئي حساس. لهذا السبب أيضاً لا يتجه السوق الرأسمالي نحو التوازن و"النظام التلقائي" بل يميل الى العكس تماماً: عدم التوازن وفوضى السوق. ومع ذلك، أعترف ممثلو الاشتراكية (الحاسوبية) بأن مشكلة الحساب الاشتراكي كانت حقيقية.
واليوم، من ناحية أخرى، تمكنت أجهزة الكومبيوتر من الانتاج الفعال لتلك السلع الاستهلاكية التي قررها المجتمع بطريقة ديمقراطية حسب الضرورة.
أنظمة الكومبيوتر اليوم قادرة على التخطيط بكفاءة لاكثر من 100 مليون سلعة استهلاكية. يتم إعطاء المتطلبات الفنية للتخطيط المنسق ديمقراطياً لانتاج سلع مستدامة ذات مغزى أجتماعي.
في المستقبل يجب أن تتحرك مناقشة الاشتراكية في هذا الطيف بين الديمقراطية الاقتصادية ل(ساندرز)، واقتصاد السوق الاشتراكي، والاقتصاد المختلط، والتخطيط الديمقراطي والاشتراكية الحاسوبية. ومع ذلك يجب النظر في حدود أو مشاكل السياسة الاشتراكية، طالما لم يتم المساس بالملكية الرأسمالية لوسائل الانتاج.
يجب التعامل مع هذه التحديات في كل نقاش جديد حول الاشتراكية.
*السيبرانية: لفظة يونانية الاصل مشتقة من كلمة Kybernets))وتعني الشخص الذي يدير دفة السفينة.ش