انصرف لينين بكل جوارحه إلى تحقيق القضية التي فكر بها، مهيئا لها بدقة وشمول، وقضى عام 1900 في عمل دائب لتنظيم جريدة سياسية لعموم روسيا. وكان من المستحيل تقريبا إنشاء جريدة عمالية ثورية في روسيا بسبب المضايقات البوليسية، فقرر لينين إصدارها في الخارج، ولكنه قبل ان يشرع بذلك اتصل بكثير من المنظمات الإشتراكية -الديمقراطية في روسيا، واتفق معها على أن تؤيد الجريدة، وعين بخطوط عامة من سيعمل فيها وسيكون مراسلا لها، ولهذا الغرض زار لينين رغم الحظر البوليسي، موسكو وبطرسبورغ وريغا وسمارا وصيزران ونيجني نوفغورود واوفا وسمولينسك. وفي ايار من عام 1900 اعتقل لينين عندما قدم إلى بطرسبورغ سرا، وكانت معه قائمة بعناوين أناس في الخارج مكتوبة على ورقة فاتورة.ولحسن الحظ لم يعثر البوليس عليها وأطلقوا سراحه بعد قليل، وأصبح المقام في روسيا خطرا. فقد كانت القيصرية تشعر أن لها في شخص لينين عدوا بالغ القوة. وقال عقيد الشرطة زوباتوف في رسالة سرية إلى رؤسائه عام 1900، انه (ليس في الثورة الان اكبر من أوليانوف) واقترح تدبير اغتياله.

استطاع لينين بشق الأنفس ان يسافر إلى الخارج. في 16 تموز 1900 سافر إلى ألمانيا، وبدأت الهجرة الأولى التي دامت أكثر من خمس سنين.

تقررت تسمية الجريدة الثورية العامة لكل روسيا باسم (ايسكرا) -الشرارة. وكان مكتب تحريرها قد أقام في مدينة ميونيخ الألمانية، وإليها جاء لينين، وكان لاعتبارات العمل السري يرسل رسائله إلى روسيا عن طريق براغ حتى لا يكتشف جواسيس المباحث القيصرية المكان الحقيقي الذي تطبع فيه الآيسكرا، وكان كل اهتمام لينين متركزا على إصدار الجريدة.

قال في رسالة له إلى تورنبيرغ في أيلول 1900 (ان كل ما في عروقنا من عصير الحياة يجب أن يذهب لتغذية طفلتنا الوليد). وفي الحق كانت ايسكرا طفلة لينين المحبوبة. كان إصدار الجريدة تعترضه عدة صعوبات، كان يجب إيجاد الموارد المالية والمكان اللازم للمطبعة، والحصول على الحروف الطباعية الروسية. وقد قدم الاشتراكيون - الديمقراطيون الألمان مساعدة كبيرة لمكتب التحرير.وفي كانون ألاول من تلك السنة أعد العدد الأول من ايسكرا التي تصدرت كل عدد من اعدادها كلمات (من الشرارة سيندلع اللهيب) ، وهذا ما حدث فيما بعد،فقد اندلع في روسيا لهيب الثورة الهائل الذي احترق في ناره الحكم المطلق والنظام الرأسمالي.

بدأت جريدة ايسكرا تصدر عندما كانت تتصاعد في البلد حركة ثورية تسير الطبقة العاملة في طليعتها، وتزداد الإضرابات في المصانع، ويثور الفلاحون على الإقطاعيين، وتنتشر الاضطرابات بين الشباب الطلاب، فكان لابد من حزب ماركسي منظم قوي لقيادة هذه الحركة، فانطلقت ايسكرا اللينينية تناضل في سبيل إنشاء هذا الحزب.

وبمبادرة من لينين وقيادته نشأت في روسيا جماعات لمساعدة ايسكرا وشبكة من أنصارها يوزعون الجريدة ويوافونها بالرسائل والمقالات والمواد و يجمعون لها التبرعات. ولما كان أنصار ايسكرا معرضين للملاحقات المستمرة من جانب الشرطة والمباحث، فقد كان عملهم خطيرا مفعما بنكران الذات. وكان يتهددهم في حالة الاعتقال السجن والأشغال الشاقة والنفي.

كان لينين يعير أهمية كبيرة لعمل أنصار ايسكرا، فكان يوجه خطاهم وينشئهم منظمين حزبيين جريئين متفانين ومناضلين من أجل مصالح الشعب.

وتدل الرسائل المتبادلة التي بقيت منذ تلك الأيام على ان لينين كان يدرس الأوضاع بدقة في كل مكان ويقدم النصائح الملموسة او يوجه الناس لإقامة الصلات التي كان يعيرها أهمية كبيرة دائما. وأصبحت ايسكرا مركزا لتوحيد القوى الحزبية وجمع الكوادر الحزبية وتربيتهم.

كان من الصعب جدا إيصال الجريدة إلى روسيا، فكانت تطبع على ورق رقيق ومتين لتيسير نقلها.وتفاديا للحواجز البوليسية كانت ترسل في حقائب ذات قعر مزدوج أو توضع في جلود الكتب التي ترسل الى عناوين مأمونة أو تخيط في صداري الرفاق الذاهبين إلى روسيا. وبما ان الطلب على الجريدة كان يزداد بلا انقطاع، فقد أنشئت في روسيا بعد فترة قصيرة مطابع سرية في باكو وكيشنيف لإعادة طبع الجريدة.

كان لينين روح الجريدة التي لعبت دورا حاسما في إنشاء الحزب، ونادرا ما كان يصدر عدد بدون ان تكون له فيه مقالة. وكانت ايسكرا تنشر مقالات في كيف يمكن على أفضل وجه تنظيم وبناء الحزب وجر الجماهير إلى النضال الثوري، وتنشر أنباء الحركة الثورية في مختلف مدن روسيا، وأنباء ما يجري في المصانع والقرى. وسرعان ما عرف العمال الجريدة واحبوها. وكان كل عدد يتنقل من يد إلى يد ويقرأ حتى يتمزق ورقه. وابتداء من أواخر سنة 1901 بدأ فلاديمير ايليتش أوليانوف يوقع بعض مقالاته وأعماله باسم لينين. وكثيرا ما يسأل الناس، لماذا اختار هذا الاسم المستعار ؟ تقول زوجته كروبسكايا ان الاختيار كان عرضيا على ما يظهر. وربما انه عندما كان يعمل في ايسكرا مع بليخانوف الذي كان يوقع مقالاته باسم فولغين (من اسم نهر الفولغا الروسي) اختار هو نهر لينا السيبيري الجبار اساسا لاسمه المستعار.

عرض مقالات: