رغم أن الحملات الانتخابية البرلمانية في كل دول العالم تُخاض كما هو معروف على شعارات وبرامج متباينة إلا أنه يمكننا القول بأن الانتخابات العراقية الوشيكة هي أول انتخابات تشريعية في تاريخ العالم الحديث يكون محور حملاتها الرئيسي حول الفساد ، بعبارة اخرى فإن الصراع السياسي الضاري الجاري حالياً في هذه الحملات هو على كسب وعي الناخب ، وبخاصة البسيط ، في مدى القدرة على تمكينه وتحصينه على التمييز بين المرشح الشريف والمرشح الفاسد أو المدعوم من الفاسدين ، وذلك من خلال لغة دعائية شعبية بسيطة يتبناها  المرشحون الشرفاء المعروفين بنزاهتهم الوطنية واستقامتهم الانسانية أياً تكن انتماءاتهم السياسية والايديولوجية في مواجهة المرشحين الفاسدين والمفسدين وفي عدادهم الذين ليست لديهم تجربة فسادية وإفسادية سابقة لكنهم مؤهلين دخول هذه التجربة في البرلمان القادم أياً تكن شعاراتهم الانتخابية .  
والحال أن الفساد الذي تراكم بسرعة صاروخية في بحر 15 سنة فقط يمكن اعتباره هو الأسوأ والأحط أخلاقياً في تاريخ العالم حتى ولو لم يكن العراق في ذيل قائمة الدول الأكثر فساداً ، والراجح أنه لم يحدث في تاريخ العالم الحديث أن أستلمت قوى سياسية من تيار واحد السلطة " انتخابياً " ، بعد أن ظلت عقوداً في المعارضة تقاوم وتعارض نظاماً من أسوأ الانظمة الدكتاتورية بطشاً في العالم ، ثم أضحت رموزها " المجاهدة " بين عشية وضحاها داخل السلطتين  التنفيذية والتشريعية ، وبدرجة أقل داخل السلطة القضائية هي أبرز رموز حيتان الفساد في كل منها ، وتنطبق عليهم تماماً الآية الكريمة " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً " .  بل والاكثر مدعاة للدهشة ان يحدث كل ذلك في وقت أحوج ما يكون فيه شعبهم لتضميد جراحه المزمنة حيث يعاني السواد الأعظم منه أشد صنوف الضنك وتدهور أحواله المعيشية والصحية والخدمية بعد سنوات طويلة من مغامرات الحروب التي زجه وانهكه فيها الدكتاتور المقبور صدام حسين ، ناهيك عن صرفه الأموال الطائلة على مستلزمات القمع الداخلي وخلافها من هدر المال العام على إعلامه ونزواته المتعددة . وبالتالي فهؤلاء الفاسدون والمفسدون الذين فازوا في الدورات السابقة بفضل المتاجرة بالشعارات الدينية ودغدغة مشاعر الناخبين الدينية والطائفية للتشويش على خصومهم الشرفاء المنافسين لهم على الحلبة الانتخابية إنما هم الآن ونظراءهم  الجُدد قد سقطوا في أيدي الغالبية العظمى من الناخبين التي باتت تدرك حتى بفطرتها وحدسها العقلي خداع وزيف شعاراتهم الدينية وأنها لم تعد تسمن وتغني من جوع ولم تعُد تنطلي عليهم أية وعود أو لغة برامج انتخابية انشائية مزخرفة بالآيات والادعية أو الأشعار أو ووعود دينية بالفوز بجنة الخُلد ووعيد من غضب الله وأوليائه وأئمته ومن ثم عذاب جهنم وبئس المصير ، إن هم لم يصوتوا للاتقياء أو سوّلت لهم أنفسهم التصويت لخصومهم الشرفاء والوطنيين والديمقراطيين الذين أعتادوا أن يطلقوا عليهم " كفرة " و " وملحدين " في ممارسة تكفيرية لا تكاد تختلف عن "داعش " التي لطالما أدعوا محاربتها لممارساتها التكفيرية بحق الناس . وهنا بالضبط مكمن سر قلقهم وهلعهم على مصيرهم في نتائج الانتخابات القادمة . ويمكننا تفسيره بالتطورات الهامة : 
  1- تطور وعي الناخبين الشعبي ولمسهم لمس العين والتجربة فساد الذين انتخبوهم في الدورات السابقة داخل البرلمان او داخل الحكومة وثرائهم الفاحش ، الظاهر منه والباطن ،  بفضل الفساد نفسه ونهب واختلاس المال العام وصل طال عشرات المليارات من خزينة الدولة ومقارنة كل ذلك بأوضاعهم وأحوالهم المعيشية والخدمية التي ليس فقط لم تتبدل قيد أنملة بل تدهورت إلى الأسوأ . 
2- بروز عدد ولو محدود من رجال الدين الذين يتحلون بالورع والتقوى وبقدر معقول من الاستنارة والذين لا يتواتون بكل شجاعة عن التنديد بنظرائهم من المعممين الفاسدين أو المتسترين على الفساد والمفسدين من أدعياء الاسلام السياسي ، سواءً بالتبرير لكونهم مرشحين إسلاميين أو بالصمت عن التفوه بكلمة عن فسادهم المعروف للقاصي والداني مترجمين بذلك المقولة المأثورة " الساكت عن الحق شيطان أخرس " ، بل ان بعض رجال الدين هؤلاء المستنيرين  لا يترددون عن توعية الناخب ، حتى من منطلقاتهم الدينية المبدئية ،  بأن المرشح الصالح الشريف مهما كان فكره  خير وأفضل للمسلمين من المرشح المكثر من الصلوات في الجوامع والمساجد والسبّاق لحضور المناسبات الدينية أوالذي لا تفارق أصابعه مداعبة السبحة الدينية والمفرط في التمتمة واللهج بالدعاء للمؤمنين والشعب  . 
3- حرص المراجع الدينية الكبار على حيادهم بين المرشحين في الانتخابات والوقوف على مسافة واحدة بينهم ورفضهم الحازم أي ادعاءات بأن أياً منهم يدعم مرشحاً أو كتلةً انتخابية علنية او تلميحاً . 
 4- ظهور أول كتلة انتخابية أئتلافية فريدة من نوعها  في تعدديتها  السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية ألا هي " سائرون " والتي من أبرز قواها السياسية  الحزب الشيوعي والتيار الصدري الذي تقوده  الشخصية الإسلامية الدينية البارزة السيد مقتدى الصدر ( إبن المرجع الكبير الراحل الشهيد السيد محمد صادق الصدر ) الأمرالذي يشكل احراجاً بالغاً هذه المرة لتجار الدين في تعويلهم على استخدام سلاح التكفير الذي بات سلاحاً فاسداً ضد خصومهم السياسيين ، ولعل هذا  ما يُفسّر أيضاً ظهور أشكال من الاستفزازات وأعمال التخريب والتهديدات في أماكن ومعاقل الدعاية الانتخابية لمرشحي  هذه الكتلة . مهما يكن فإن هذا النوع من الائتلاف يمثل نقلة نوعية في وعي وثقافة مؤسسيه من حيث تغليب الرؤى والقواسم المشتركة في النظرة لسٌبل مصالح الوطن والشعب وعلى الأخص الفئات المهمشة منه على التناقضات والاختلافات الفكرية والسياسية ، وهذا يُعد بصورة من الصور تجسيد لسياسة وثقافة التعايش مع الآخر قولاً وفعلاً ونبذ سياسة الاقصاء ،  ومن ثم الإقرار به كمكون زميل من مكونات الحياة السياسية والاجتماعية وعدم تجاهل وزنه بين أقسام من الجماهير ومن ثم البحث عن المشتركات معه بما يصب في مصلحة الوطن والمنفعة العامة الجماهيرية . كما يمثل هذا النوع من الائتلافات تجربة جديرة بالدراسة والاقتداء في أقطارنا العربية التي تعيش ظروفاً سياسية واجتماعية مشابهة للعراق .  
ومن نافلة القول إن وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة تلعب كأداة تقنية حديثة دوراً في منتهى الأهمية في وسائل التواصل بين المرشحين وناخبيهم في شرح وتوضيح برامجهم بكل الاشكال الممكنة من شعارات وبرامج وصور وفيدوات وتوعية الناخب بمكائد التيارات والمرشحين الذين لا يبتغون خيراً لوطنهم وشعبهم . 
وبطبيعة الحال لا يُخالج المراقب الحصيف أية أوهام إن المعركة ضد الفساد والمفسدين الذين اكتسبوا خبرة في التلون والاختفاء وأجادوا مختلف أشكال وفنون التمترس داخل مفاصل الدولة أن يسلموا بسهولة بهزيمتهم أو أن تتم هزيمتهم بضربة انتخابية قاضية واحدة ، ذلك بأن المعركة السياسية هي الآن حامية الوطيس على أشدها كُلما اقترب يوم الاقتراع الموعود في 12 أيار القادم ، لكن المؤكد بأنه إذا ما استطاع الناخبون ذوي الحد الادنى من الوعي السياسي السليم والفطرة السوية إيصال أكبر عدد ممكن من المرشحين الخيرين والشرفاء من ابناء شعبهم إلى قبة البرلمان ،  وإذا ما شكلوا بعد الفوز مجتمعين مع الفائزين الآخرين الشرفاء من خارج قائمة " سائرون " ولنقل  ما يقرب من نصف البرلمان القادم ، أو ثلثه على أقل تقدير ، سيكون ذلك بدون شك مؤشراً هاماً على حدوث نقلة كبرى على طريق الإصلاح السياسي الجذري الشامل وتعميق الديمقراطية في مؤسسات الدولة والمجتمع المدني وبما ينهي عذابات واحد من اكثر شعوب العالم عراقةً في حضارته وموارده البشرية ومن اكثرها في الوقت نفسه ابتلاءً منذ تأسيس دولته على مدى قرن بالدكتاتورية ، سواء بشكلها الديمقراطي الصوري ( الملكية ) او بشكلها الجمهوري الفاضح ، وما جلبته له من شرور وكوارث متصلة طوال هذه الفترة المديدة . 
عرض مقالات: