مرت خلال الإسبوعين الفائتين ذكرى أهم ثورتي تحرر وطني واجتماعي ذات مضامين تقدمية في القرن العشرين ؛  الأولى الذكرى الثامنةوالستين على ثورة        يوليو / تموز 1952 تموز المصرية بقيادة الزعيم الوطني القومي جمال عبد الناصر ، والثانية الذكرى  الثانية والستين على ثورة 14 تموز / يوليو 1958 العراقية بقيادة الشهيد عبد الكريم قاسم . وفي كل عام مع حلول ذكرى هذين الحدثين التاريخيين الكبيرين يتجدد الجدل حول الموقف منهما ، وعما إذا كانت كلتاهما  ثورة أم " إنقلاب " . واللافت في جدل هذا العام أنه جرى أكثر اتساعاً واحتداما داخل العراق .  ومع  أن تغيير  النظام في كلا البلدين - كتعبير عن الإرادة الشعبية في كلا البلدين - كانت أداته الانقلاب العسكري ، إلا أنه من الإجحاف بمكان مساواتهما بأي من الانقلابات العسكرية العربية الاخرى التي جرت خلال القرن العشرين والتي كانت جميعها تقف خلفها صراعات أجنحة  أنظمة ذات حزب واحد حاكم ، أو نخب حاكمة على الاستفراد بالسلطة ، أو كان تقف وراؤها مطامح شخصية للجنرالات الانقلابيين    ؛ ذلك بأن ثورتي يوليو / تموز المصرية والعراقية كانت كلتاهما تمثل تطلعات الشعبين المصري والعراقي في التحرر وتحقيق الاستقلال الوطني الناجز والتخلص من النظامين الملكيين الفاسدين العميلين للاستعمار الإنجليزي ، وتشكلان تتويجاً لنضالات جماهيرية طويلة ضد النظامين والاستعمار . وكان الضباط الأحرار لثورة 14 تموز ممثلين بدرجة أو اخرى  لكل القوى الوطنية المنخرطة في جبهة الاتحاد الوطني التي تمثل تلك القوى كما كان بعض ضباط ثورة يوليو المصرية ينحدرون من تيار اليسار . وبفضل هاتين الثورتين حقق  كلا البلدين العربيين إستقلالهما التام  غير المنقوص وسيادتهما الوطنية الكاملة ، وتحررا من الوصاية الإنجليزية التي كانت تحد من  إرادة النظامين السابقين المدحورين   ، وبفضل هاتين الثورتين أيضاً  تحققت إصلاحات وتحولات إجتماعية جذرية لصالح شعبيهما  ، وبخاصة الطبقات الفقيرة ( الطبقة العاملة والفلاحون على الأخص )  وذوي الدخل المحدود ، ولولا هذه الإنجازات الملموسة لما حقق قائداهما - ناصر وقاسم - شعبية جماهيرية لا ينكرها إلا جاحد مكابر أو ذو أفق سياسي ضيق . بهذا المعنى يكتسب ما قيل بأنهما  " انقلابين  "  عن جدارة صفة " الثورة " ، ولا يغير من هذه الصفة الأخطاء القاتلة التي وقع فيها زعيما الثورتين والتي مكنت قوى الثورة المضادة من الإجهاز على مكاسبهما ؛ وإذا كان يؤخذ على ثورة تموز إقدام بعض الغوغاء سريعاً بإعدام أفراد من العائلة المالكة ؛ وأن ثورة يوليو المصرية لم تقدم على مثل هذه الخطوة ؛ فإن قيادتها ارتكبت جريمة  إعدام العاملين محمد البقري ومحمد خميس في اضراب عمال نسيج كفر الدوار بعد شهر ونصف فقط من قيام الثورة ( 7 سبتمبر / أيلول )  ؛ وما كان ترحيل الملك فاروق وإسرته إلا خوفا من ردود الفعل الغربية غير المحسوبة بالتدخل عسكرياً لإحباط الثورة ، سيما وأن الانجليز كانت لهم قوات مرابطة عند القناة ؛ وبدليل أنهم لم يتوانوا  عن إعدام عدد من القادة الشيوعيين في أواخر الخمسينيات على خلفية موقفهم المتحفظ على مسخرة الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا ومحاولة ناصر ارغام العراق على قبولها. لكن بإعدام الزعيم  قاسم على أيدي الإنقلابيين البعثيين الفاشست بدار الاذاعة  في نهار رمضاني وهو صائم في شباط الأسود من عام 1963 أنتهت ثورة 14 تموز ، وبوفاة عبد الناصر المفاجئة في أيلول / سبتمبر عام 1970 أنتهت ثورة يوليو . 

ويُعد تغييب الديمقراطية ونزعة التفرد بالحكم والقرارات  السياسية لدى القائدين هو الخطأ الرئيسي الجسيم التي تندرج تحته جميع الأخطاء القاتلة ، فعبد الناصر وحتى بعد هزيمة جيشه في حزيران / يونيو من 1967 أمام العدو الاسرائيلي والتي سرعان ما أودت بحياته عام 1970 ؛ أي بعد ثلاث سنوات من الهزيمة فقط ؛ لم يستطع الاتعاظ من أسباب الهزيمة المشار إليها ومن ثم أهمية  التخلص من نزعةالتفرد في الحكم والقرارات السياسية المصيرية ؛ بل أستمر في التضييق على  نشطاء من حلفائه اليساريين المفترضين واعتقالهم  ؛  لمجرد الشبهة أو لاختلافهم في الرأي مع آرائه ومواقفه السياسية مهما صغرت أهميتها . وعبد الكريم قاسم من جهته ومع أنه يُحسب له بأنه كان أقل عداءً من عبد الناصر لليسار ؛  وعلى وجه الخصوص الحزب الشيوعي ؛ وحيث  اختار بعض الكفاءات من كوادره في حكومته ؛ إلا أنه كان بطبيعته شكاكاً بسبب قوة نفوذ الشيوعيين الجماهيرية في تلك الحقبة . وبالتالي لم  تتسم مواقفه من الشيوعيين بالثبات الدائم ؛ فظلت سياسته منهم إما متأرجحة وإما مناوئة  ، وسرعان ما أبعد كوادر الحزب الشيوعي الفذة من حكومته ، مما سهل أن يكون بعدئذ لقمة سائغة للإنقلابيين الذين أنقضوا بإنقلابهم الفاشي الدموي أوائل 1963 عليه وعلى الثورة ؛ جراء عدم اعتماده على حلفاء شرفاء موثوقين من القوى اليسارية والديمقراطية ، مع العلم أن هذه القوى هي التي تصدت بصدورها العارية لمحاولة احباط الانقلاب ، وقدمت في هذه المقاومة الباسلة تضحيات هائلة تفوق تضحيات أنصاره في النظام والمجتمع  . 

لكن تظل واحدة من المفارقات المأساوية ؛ أن واحداً من العوامل التي أفضت إلى احباط كلتا الثورتين يتمثل في  صدامهما المبكر في تلك الفترة التاريخية الحرجة  ، فقد انكشف  تورط عبد الناصر في دعم تحالف الانقلابيين البعثي - القومي  في 8  شباطالأسود في العراق ، إذ كان  ناصر يطمح أن يسير قاسم منصاعاً في ركابه بدمج العراق في  الوحدة الاندماجية المرتجلة تحت قيادته التي تمت سريعاً بين بلاده و سوريا في شباط / فبراير عام 1958 بدون قيد أوشرط ، علاوة على أن هذا  الحدث لم يشارك فيه قاسم أصلاً  ؛  إذ تم قبل بضعة أشهر من نجاح ثورة تموز العراقية بعدئذ بقيادته من نفس العام  . كما  كان قاسم من جهته يرفض هذا الاسلوب الأوامري الفرضي للوحدة ، ووقف معه في ذلك الشيوعيون الذين كانوا يطرحون طرحاً بديلاً أكثر واقعية يتمثل في الاتحاد الفيدرالي مع العراق بديلا عن الوحدة الإندماجية الفورية ؛ دون مراعاة لخصائص التركيبة السكانية المتفاوتة للبلدان  الثلاث ؛ وكذلك تفاوت التطور الاقتصادي والاجتماعي فيما بينها . وإن كان في تقديرنا حتى " الاتحاد الفيدرالي " معرضاً للانهيار ما لم يقم قبلاً على اُسس ديمقراطية  بعد دمقرطة الأنظمة الثلاثة . وللأسف فإن  تدني الوعي الشعبي بأهمية الديمقراطية يتحمل نصيباً أيضاً في مسؤولية سلق الوحدة سلقاً بذلك الأسلوب من حرق المراحل ،   حيث كانت تطغي حينذاك على وعي الشعوب العربية انجاز مهام التحرر الوطني والشعارات القومية أكثر من الوعي بأهمية ربطها بالحقوق الدستورية والديمقراطية . والحق ما  كانت الثورتان لتفشلا لو أن قيادتي الثورتين تعاونتا بالاستناد على التحالف مع اليسار والشيوعيين وسائر القوى الوطنية والديمقراطية الشريفة الحقة، ولو أنهما لم تتلكأ عن  وضع خارطة طريق واضحة المعالم بنية صادقة تفضي لارساء نظام  ديمقراطي دستوري تعددي يقوم على فصل السلطات والتعددية السياسية وكفالة الحريات العامة ، ولما تمكنت قوى الثورة المضادة التي قفزت على السلطة من القضاء على ما تحقق من مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة . 

عرض مقالات: