لم تكن الاحتجاجات الاخيرة ضد الأساليب القمعية للشرطة الامريكية بالحدث الجديد، ولكن مالم يكن مسبوقاً هو اتساعها لتشمل عدداً من بلدان العالم، وباشتراك جميع الاعراق من الملونين والبيض وخاصة فئة الشباب. هناك منْ يرى أن التضامن العالمي غير المسبوق هذه المرة، انما هو تعبير عن غضب جماعي وشعور بالتهميش السياسي والاقتصادي في ظل نظام عالمي تستأثر فيه فئة قليلة بالسلطة والنفوذ والمال، واعلان صريح لرفض مخرجات هذا النظام الجائر، وإن حادثة فلويد لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال.
بعد كل حركة احتجاج يستعيد الحزبان الجمهوري والديمقراطي جدلا مكروراً عن إصلاح مؤسسة الشرطة، وفي أحسن الاحوال تشرّع بعض الضوابط والمحددات، أو تعقد لجنة لدراسة الخلل في هيكلية النظام البوليسي وتقديم الاقتراحات لأصلاحه، ويستمر الحال كما هو بانتظار فيديوهات جديدة تكشف عن انتهاكات جديده لحقوق الانسان ومخالفات للقانون من قبل حماته. فهل يمكن لإجراءات فوقية ان تصلح مؤسسة مثقلة بأرث مئتي عام من ثقافة التمييز العنصري والطبقي؟
لقد كانت اولى تشكيلات الشرطة في ولايات الجنوب تعود الى ما يسمى خفر العبيد slave patrol والتي كانت مهمتهم تنفيذ القوانين التي تتضمن بشكل رئيسي تأديب العبيد إذا ما تمردوا على أسيادهم، ومعاقبة من لا يروق للسيد انتاجه في حقول القطن، والقيام بدوريات للقبض على العبيد الهاربين من ملّاكهم. وكان مالكو العبيد يوظفون الخفر من أشرس مقاتلي المليشيات التي تقوم هي الأخرى بترهيب العبيد. وبعد ان هُزم الجنوب في الحرب الأهلية وتم الغاء العبودية (قانونياً)، وسنّت قوانين ما يسمى بإعادة الاعمار Reconstruction والتي نصت على تعويض العبيد المحررين قطع اراضي وبعض المساعدات، اشتدت كراهية البيض المتطرفين للسود وبدأت الكوكلس كلان kkk مع الخفر في قتل وحرق مزارعهم وكنائسهم وممارسة شتى أنواع العنف لأجبارهم على العودة للعمل كعبيد تحت امرة اسيادهم السابقين، وكان ذلك يجري بتواطؤ الحكام المحليين وهم من ملاك العبيد أنفسهم، والرئيس جونسون الذي كان معروفاً بعنصريته آنذاك. أما في الولايات الشمالية والتي لم تكن فيها العبودية مشروعة قانوناً، فلم يكن احتقار وكراهة السود والمهاجرين الجدد وخاصة الايطاليين والأيرلنديين أقل وطأة، وكان المفكر دي توكفيل قد عبّر في كتاباته عن دهشته لما شهده من عدوانيه واذلال للسود فيها.
كان أول جهاز بالمعنى الحديث للشرطة قد تأسس عام 1838 في بوسطن، الولاية التي شهدت نهضة صناعية كبيرة وتشكلت فيها طبقة عمالية كبيرة، وكانت المهام الرئيسية للشرطة كسر اضرابات العمال واعتقال القادة النقابيين وحماية رجال الاعمال وأصحاب المصانع، وقمع اي حركة احتجاجية ينظمها السود أو العمال الأيرلنديين أو الايطاليين أو الألمان أو الكاثوليك أو الآسيويين. توالت أقسام الشرطة بذات المهام في الولايات الأخرى تباعاً حتى اكتمل بناء المؤسسة في جميع الولايات عام 1888، وقد بلغ قمع الشرطة للحركات العمالية وقادتها أشدّه بعد كومونة باريس عام 1871، حيث دبّ الرعب في نفوس السياسيين ورجال الصناعة والمال، وشاع الاعتقاد ان للمهاجرين الجدد من تلك الجنسيات مخططاً للقيام بثورة شيوعية.
ثمة منْ سيقول أن تلك الفترة قد ولّت، وأن مؤسسة الشرطة اليوم ملزمة بتنفيذ القوانين وإحترام الحقوق، الحقيقة أن التمييز العنصري و الطبقي قد تواصل بصيغته العلنية وبدون مواربة حتى عام 1965 لكونه مشرّعاً حسب قانون جيم كرو الذي يحرّم إختلاط السود مع البيض في الحدائق العامة ومرافقها وفي المدارس والمكتبات العامة ووسائط النقل والمطاعم، و تحريم الزواج بين السود و البيض، وقد أصرّ وودرو ولسون عام 1913 على تطبيق سياسة العزل العنصري حتى في أماكن العمل مما يقوّض فرص عمل السود، فنادراً ما كانت هناك آنذاك مصانع أو اعمال يديرها أو يملكها السود، وكان دور الشرطة لفترة 85 عاماً معاقبة من يخالف تلك القوانين من السود والتنكيل بهم، ورغم فرض بعض القيود القانونية بعد انتهاء فترة الفصل العنصري عام 1965 (بفضل كفاح حركات الحقوق المدنية)، لم تنته الممارسات العنصرية تماماً بل اتخذت أساليب ملتوية في التبرير و محاولات الأفلات من محدّدات القانون، ومازال التمييز عرقياً أو طبقياً منبثّاً في بعض القوانين والتشريعات التي سنّت تحت غطاء مكافحة الجريمة والمخدرات و خصخصة السجون وغيرها، وقد صيغت بعقلية تفوق الرجل الابيض وبهدف حماية ودعم رأس المال.
قد أكون بحاجة الى صفحات لتفكيك ومناقشة تلك القوانين، ولكن أقصر الطرق للكشف عن أهدافها الحقيقية هو ما صرّح به مهندسو تلك السياسات، ففي تسجيل صوتي مسرّب لمستشار الرئيس نيكسون (جون إيرلكمان) يقول: أن الهدف الحقيقي لحملتنا ضد المخدرات هو التخلص من عدوّين لنا وزجّهم في السجون، السود واليساريين المناهضين لحرب الفيتنام. أما مستشار ريغان (لي آتووتر) فقد قال ما معناه: لم يعد قانونياً بعد 1965 ان تدعو الاسود بالألقاب العنصرية، عندها تلجأ الى التجريد واللغة الرمزية، فحين تدعو الى الحرب ضد المخدرات أو تخفيض الضرائب أو تحجيم دور الدولة، فانت تبدو وكأنك تتحدث عن القانون والاقتصاد، ولكنك تعلم جيداً ان مخرجات ذلك ستكون مؤذية للسود تحديداً. والرئيس بيل كلينتون اعتذر لمرات عديدة اثناء حملة زوجته للرئاسة عن النتائج الكارثية لما يسمى بقانون مكافحة الجريمة والذي صاغه جو بايدن عام 1994، وكان من نتائج ذلك القانون تغوّل جهاز الشرطة عدّة وعدداً، وامتلاء السجون بالسود وخاصة من فئة المراهقين والشباب.
لفهم الظلال الثقيلة للماضي على الحاضر، و البصمات العنصرية والطبقية التي لم تزل ملازمة للقوانين الجارية اليوم، لنعد الى التعديل الدستوري رقم 13 الذي ينص على تحريم العبودية فرضاً أو طوعاً، [ولكنه يستثني المحكومين بجرائم]، و الاستثناء الذي ضمّنته بين قوسين قد شكّل نافذة لاستعادة نظام العبودية بصيغ جديدة، فقد اصدرت معظم الولايات الجنوبية لائحة قوانين خاصة بالسود Blacks Code، يحكم الاسود طبقاً لها بالجرم اذا كان عاطلاً عن العمل، او التشكيك بعد مقدرته على إعالة أهل بيته، أو لوحظ وهو يدور بالشوارع لمجرد التنزه ( قانون التسكّع)، أو عند تجمّع السود خارج البيت في لقاء اجتماعي، وغير ذلك من الاحكام المصمّمة لاعتقال أكبر عدد من السود . تقوم الشرطة طبعاً بتنفيذ تلك القوانين وإيداع السود في السجون، ثم تقوم الولاية ببيع السجناء الى مالكي العبيد السابقين، على أن يتكفّل المالك بملبس ومأكل السجين، وهناك أساليب اخرى كأجبار السود على توقيع عقود عمل سنوية مقابل المأكل والمشرب كأجور، وهكذا يصبح امتلاك العبد قانونياً، وقد استمر ذلك لعقود حتى رئاسة تيدي روزفلت الذي شكّل لجنة تحقيقية صعقته نتائجها واتساع ظاهرة التحايل لقوننة العبودية من جديد. تلك الثغرة القانونية هي ما أتاحت لإدارات السجون الحكومية والخاصة في القرن الحادي والعشرين للتعاقد مع 4100 شركة في مختلف الصناعات (حسب NPR) لاستغلال عمل السجناء ومعظمهم من السود بانتاج مختلف البضائع من داخل السجن، حتى ان بعض الشركات قد فتحت أقساماً انتاجية داخل السجون، ويدفع للسجين سنتات في الساعة (ما يعادل علبة دخان مقابل عمل ثلاثة ايام ثمان ساعات يومياً، ولإخيار للسجين برفض أو قبول العمل)، إذا لم تكن تلك هي العبودية الحديثة فما هي اذن؟
وجّه كيفن مانكس مسؤول الحزب الجمهوري في أوريغون دعوة لشركة نايكي للأحذية كي تنقل أعمالها من الدول النامية حيث العمل الرخيص الى سجون الولاية كي تحقق أرباحاً ميزانية الولاية بقسط منها!!، تلك إحدى الصور الناطقة والتي لا تستدعي أكبر وتدعم تعليقاً، ليس في دعم النظام للرأسماليين باستغلال الفقراء من الملونين فقط، بل الترادف الذي عبّر عنه مانكس صراحة في طبيعة العلاقة بين الدول الصناعية والدول النامية من جهة، وعلاقتها بالفقراء الملونين من مواطنيها من جهة أخرى.
قد ينبري أحدهم قائلًا: ولكن هؤلاء مجرمون يستحقون العقوبة!، وللإجابة على ذلك يجب ان ندرك اولاً: ان المجرم يقضي عقوبته بالسجن كما أمر الحاكم في قضيته ولا يحق لأحد استعباده كعقوبة اضافية، وثانياً: هناك أكثر من نصف مليون سجين في السجون الامريكية من المتهمين غير محكومين، ولكن لا يطلق سراحهم إلا بدفع كفالة نقدية، عادة ما تكون عالية جداً بحيث يستحيل توفرها لدى الفقراء، كما أن هناك من يلقى خلف القضبان لمخالفات قانونية بسيطة، بسبب قسوة ما يسمى بقوانين مكافحة الجريمة أو الحرب على المخدرات.
لمعالجة التمييز ضد الملونين والفقراء؛ الولايات المتحدة بحاجه الى المزيد من الحلول الاجتماعية والقليل من الحلول الأمنية، تبدأ بمراجعة شاملة لقوانين العدالة وخاصة ما يسمى بمكافحة الجريمة والمخدرات ونظام الكفالة، فقد أثبتت أكثر من دراسة بان السجون الأمريكية هي مدارس لصناعة المجرمين وليس الإصلاح، وإن السود يسجنون وفق تلك القوانين العنصرية بمعدل 4 مرات أكثر من البيض بتهمه تعاطي المخدرات، علماً بأن عدد البيض والسود يتعاطونها بنفس النسبة تقول الاحصاءات. كما أن السبب الرئيسي لانتشار المخدرات يعود إلى ترويج كبريات شركات الادوية للعقاقير المخدرة، وأيضاً سوء الاوضاع المعيشية والحرمان وفقر المدارس المريع والسكن والبطالة وانعدام برامج الاصلاح والعلاج النفسي في مناطق السود، مما يستدعي الانفاق لمعالجة تلك الآفات الاجتماعية بدلاً من إنفاق 100مليار دولار سنوياً على الشرطة و80 مليار على السجون، (علماً ان 82% من مهمات الشرطة لا تتضمن مكافحة الجريمة بل مخالفات مرورية وغيرها من المخالفات التي لا يتخللها العنف حسب تقرير احصاءات مكتب العدل لسنة 2015). من الضروري أيضاً اعادة هيكلة أجهزة الشرطة ومراجعة اشتراطات وضوابط تعيين رجل الأمن، وتدريب رجال الأمن على اكتساب مهارات للتهدئة بدل التصعيد بحيث يكون استخدام العنف آخر الحلول لا أولها، تحميل الشرطة كامل المسؤولية بإلغاء قانون الحصانة الذي أصبح قارب نجاة للقتل المجاني، وتنقية الاجهزة من العناصر المنغمسة في سياسات اليمين العنصري.