في الفترة بين أواخر آذار وأوائل نيسان من عام 2014 حللنا ( مجموعة من الرفاق البحرانيين وكاتب هذه السطور ) ضيوفاً في بغداد على الحزب الشيوعي العراقي بمناسبة الذكرى ال 80 لتأسيسه ، وكم كنا في غاية السعادة والنشوة لحضور جميع فعالياته السياسية والفنية والثقافية  والتقائنا بعدد من قياداته وكوادره المناضلة من مختلف الأجيال وذلك لما يشكله هذا الحزب العريق من مكانة كبيرة استثنائية في أفئدة كل الشيوعيين البحرانيين ، لأسباب شرحتها حينها في مقال مطوّل لي نُشر بأحد أعداد "طريق الشعب " الصادرة أيام المناسبة . ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى أن العشرات من الشيوعيين البحرانيين ،إن لم يكن المئات منهم ، قد أسموا أول مواليدهم الذكور " فهد " تيمناً بالقائد الشهيد المؤسس ، كما أكاد أجزم بأنه لا يوجد مناضلون شيوعيون غير العراقيين يهيمون طرباً وحماساً في عشق أغاني " الطريق " وفناني الحزب الشيوعي العراقي كما يهيم بها الشيوعيون البحرانيون ، بل يحفظون كلماتها كلها عن ظهر قلب ، وهي دائماً وابداً حاضرة ، منذ احتفالات الذكرى الأربعين العلنية في بغداد 1974 ، في احتفالات ومناسبات  حزب جبهة التحرير الوطني البحرانية سواءً في مرحلة العمل السري أم في المرحلة العلنية الراهنة التي يمثلها جمعية المنبر التقدمي ، لاسيما وأن تلك الاغاني أضحت وسيلة مهمة ليس في شحذ همم مناضليها فحسب ، بل وأداة فعالة وجذٌابة لاستقطاب مناضلين وأنصار جُدد وذلك لما يحظى به الفن الغنائي العراقي بوجه عام من جاذبية لدى الشعب البحراني بأكمله .  أسوق هذه المقدمة توطئةً  للتأكيد على الدور النضالي  الملهم الذي قام  به ومازال يقوم  هذا الحزب في توحيد القوى الوطنية والسياسية طوال مسيرته النضالية الطويلة الجديرة بالإستفادة منها من قِبل قوى اليسار في منطقة الخليج والجزيرة العربية التي باتت تواجه اليوم مهاماً وظروفاً نضالية بالغة التعقيد وفي منتهى الخطورة ، وعلى الأخص بلادنا البحرين ، كما  سنوضحه لاحقاً ، وهذا الاستلهام  لا يفرضه فقط كون الحزب الشيوعي العراقي هو أقدم حزب شيوعي ويساري في منطقة الخليج والجزيرة العربية فحسب ويختزن تجربة نضالية ثرية عظيمة بل و لما يجمع الشعب العراقي وشعوب هذه المنطقة من مشتركات كثيرة في الخصائص الاجتماعية والتراثية والتاريخية لا حصر لها وأحسبها غنية عن التعريف .  
ولعلي أتذّكر جيداً بأنه على مأدبة غذاء استضافنا فيها السكرتير العام السابق للحزب الرفيق حميد مجيد موسى في تلك المناسبة الثمانينية وكنتُ جالساً بجانبه نتجاذب أطراف الحديث ، أن قلتُ له في نهاية الحديث ونحن نهم بالانصراف : إن حزبكم يا أبا داود بات مؤهلاً اليوم أكثر من أي وقت مضى - منذ المذابح التي ارتكبها انقلابيو 8 شباط الأسود 1963.بحق خيرة قياداته وكوارره المناضلة - للنهوض واستعادة سني قوته وتألقه في الحياة السياسية كما كانت  في أوجها أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الآفل، وقد انفرجت على محياه حينئذٍ ابتسامة خجولة صغيرة وهو يشدُ على يدي بحرارة مودعاً إياي وبقية الرفاق البحرانيين . 
على إنني حينما بشّرته  بنبؤتي هذه لم تكن صادرة البتة من باب المجاملة التي يقتضيها أدب المجاملة واللباقة لكرم الضيافة عند العرب ، بل عن قناعة ذاتية تامة لأسباب موضوعية وذاتية تدارستها بإستفاضة وعناية وشغلتني طويلاً من التأمل منذ انهيار النظام السابق ، وإذ لا يتسع المقام هنا لاستعراضها فإنها تتمثل باختصار شديد في ظروف العراق التي أستجدت - رغم تعقيداتها الجمة منذ  الاحتلال الامريكي في 2003 -  والتي أحدثت نقلة نوعية في الإصطفافت السياسية والاجتماعية والطبقية مختلفة عن الوضع السابق في ظروف العمل السري خلال حكم الحكم الدكتاتوري البعثي السابق ، وبما أستجد أيضاً مؤخراً بعد تحرير تراب أرض الرافدين من دنس " داعش " ، وحيث بات الحزب اليوم أكثر تأهيلاً لإستشراف مهام وسُبل النهوض الجديد للحزب ، وإن كانت بطبيعة الحال هذه السُبل ليست سهلة ومفروشة بالورود ، لكن الحزب يستطيع وحده واستنادا لما يختزنه من خبرة نضالية طويلة غنية استشراف وإبداع أفضلها وتحديد المهام التي من شأنها تسريع نهوضه الجديد على اُسس مدروسة وفي مقدمتها بناء كتلة تاريخية من أعرض القوى السياسية لإحداث النقلة النوعية المطلوبة نحو إصلاح النظام القائم الحالي وإحداث التحوّل المنشود  مسلحاً بخبرته النضالية وعزيمته الثورية الجبّارة ، وقبل كل شئ  بما يمتلكه من بصيرة مرتكزة على منهجيته العلمية الماركسية الثاقبة في معرفة تلك الطرق والوسائل والتكتيكات النضالية الملائمة والمتوافقة مع خصائص كل مرحلة نوعية مستجدة من مراحل تاريخ بلاده السياسي والاجتماعية . 
ولعل ما ناله الحزب الشيوعي العراقي منذ ظهوره العلني الجديد غداة الاحتلال من شهادات واعترافات بنزاهته في العمل السياسي والبرلماني على مدى نحو 15 عاماً من قِبل قوى ورموز سياسية عديدة ، بما فيها قوى لعلها من ألد أعدائه الايديولوجيين ، فضلاً عن أوساط ورموز حكومية مازال يحرص اكثرها على لقاءات تشاورية وتنسيقية معه حول مستجدات الاوضاع العامة ليؤكد ويُبشّر بآفاق نهوضه المرتقب المأمول . وفي تقديري ان هذه المكانة التي يتبوأ بها الحزب على مسرح الحياة السياسية الجديد لم تأتِ من فراغ بل هي ثمرة من ثمرات رصيد تضحياته وتجربته النضالية المديدة في تاريخ العراق الحديث ، وإتباعه سياسة واقعية مرنة تنأى عن التشرنق على الذات والتعالي على القوى السياسية مهما كان اختلافاته السياسية والايديولوجية معه ،  ومن ثم انتهاجه سياسة تقوم على التواصل المستمر والدؤوب معها ، ولما أثبته الحزب أيضاً من حضور على مسرح تلك الحياة من تجرد ونزاهة ، ناهيك عن حرصه  على تجسيد هذا الحضور وتوظيفه من أجل استعادة قوته بما يخدم مصالح جماهير شعبه وفي المقدمة منه الطبقات والفئات المهمشة والمسحوقة وهو ما يصب في ذات الوقت لصالح القوى السياسية الشريفة ،  ومن ثم سعيه المستميت بصبر وأناة للتفتيش عن القواسم المشتركة التي تجمعه معها مهما كان ضآلة هذه المشتركات ، ومهما كان الواقع المرير يضجُ بالتناقضات وبالخلافات الشديدة معها والتي قد تتطور في أحايين غير قليلة إلى احتدام الصراع السياسي معها في أي من القضايا الآنية المستجدة  ، وصولاً إلى خلق اُطر دائمة للتنسيق المشترك لتفعيل تلك القواسم وبما يمكنه أيضاً من خلالها التواصل مع مختلف جماهير وقواعد تلك القوى والاحزاب لكسر الحلقة المفرغة في الانقسامات التي تشهدها الساحة بين القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير نحو الإصلاح الحقيقي السياسي الشامل ، وللقضاء على المحاصصة الطائفية ولعزل القوى المستفيدة منها والمتاجرة بها ، وبما يسهم كذلك في تخفيف حدة الاحتقان والاستقطابات الطائفية ، وصولاً لتبديد أجوائها إلى أدنى حد ممكن بما يوفّر الاجواء المواتية  بشكل أفضل تتحقق معه وحدة  الشعب بمختلف فئاته وطوائفه وقومياته ، وهي الاجواء التي في ظلها يمكن ايضاً تحقيق الحد الأدنى من الوحدة الوطنية كما في ظلها يتمكن الحزب أيضاً من تعزيز نضاله ونفوذه بين الناس واستعادة جماهيريته الكبيرة التي عُرف به في سنوات صعوده المجيدة وبخاصة -كما ذكرنا آنفاً - في الفترة الممتدة بين أواخر الخمسينيات إلى أوائل  الستينيات .
ومما لا شك فيه أن الحزب الشيوعي العراقي يمتلك تراثاً خصباً وتجربة غنية بالدروس تؤهله اليوم للعب دور محوري في بناء الوحدة الوطنية بين قوى التيار الديمقراطي من جهة وبينها مجتمعةً وبين سائر القوى السياسية الاخرى ، وعلى الأخص الإسلامية منها ،  التي توجد قواسم مشتركة بينها وبين التيار الديمقراطي الموّحد لهذه الغاية  . فالحزب الشيوعي العراقي سبق أن لعب دوراً محورياً عام 1957 في تشكيل " جبهة الاتحاد الوطني " شارك فيها الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والبعثيون . وكان لهذه الجبهة دور مشهود في التمهيد لثورة 14 تموز 1958 . كما تسامى الحزب فوق جراحه الكبيرة من المذابح التي ارتكبها أنقلابيو شباط 1963 البعثيون بحق الآلاف من خيرة قياداته وكوادره ، ودخل معهم من جديد بعد بضع سنوات فقط  ودماء شهداؤهم الزكية لم تكد تجف ، في تشكيل جبهة وطنية جديدة عام 1973 غداة انقلابهم الثاني تموز 1968، ثم سرعان ما نقضوا عهودهم وفتكوا بالجبهة عام 1978  وجردوا حملة فاشية جديدة على الشيوعيين استمرت منذاك حتى سقوط النظام .    
وبعد ظهوره العلني الجديد في أعقاب سقوط النظام حرص الحزب على المساهمة الفاعلة لجمع القوى الوطنية والليبرالية والقوى السياسية عامةً في أي اطار تنسيقي يوحدها للعمل المشترك لتحقيق القواسم والمهام الآنية التي تصبُ في مصالح الشعب وضرب الفساد وتطويرالنظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية ليقوم على الدولة المدنية الديمقراطية ولعل آخرها الاعلان عن تحالف " سائرون " خلال الشهر الجاري والذي يضم بالإضافة للحزب الشيوعي أحزاب كل من  " الاستقامة الوطنية " المدعوم من مقتدى الصدر ، و "التجمع الجمهوري "  ، وحركة الشباب للتغيير ، و " الترقي والإصلاح " . ولإيمان الحزب الشيوعي الشديد بأهمية التحالفات في التغيير السياسي والاجتماعي واستحالة انفراده وحده في تحقيق هذه المهمة صدرت عدة دراسات في هذا الشأن للحزب وقيادييه الباحثين ولعل من أشهرها وأهمها الدراسة الرصينة التي أعدها الرفيق جاسم الحلفي تحت عنوان " التيار الديمقراطي .. الواقع والاآفاق " عام 2013 .
ولعل الدرس الأهم المستفاد منه الذي يقدمه لنا نحن اليسار والشيوعيين البحرانيين الحزب الشيوعي العراقي من تجربته في بناء الجبهات الوطنية واُطر العمل المشترك مع مختلف القوى السياسية ، سواءً على مستوى بلدان منطقة الخليج والجزيرة العربية عامةً أم على مستوى بلادنا البحرين بوجه خاص ، هو إن الشيوعيين العراقيين  بما يتحلون به من وعي معمق لمصالح شعوبهم والأخطار التي تحدق بها في ظل انقسامات القوى والانقسامات الناشئة بين فئات وطوائف شعوبهم باتوا هم الاكثر إستشعاراً بالمسؤولية الوطنية والطبقية العليا التي تقع على عواتقهم في تحمّل القسط الاكبر في رأب الصدع بين القوى الوطنية والانقسامات الطائفية والتسامي على الذات وعدم استغراقهم في شخصنة وتفاصيل العقبات والعراقيل التي تحول دون إتمامها ،  وبخاصة إذا ما كانت صغيرة ويجري تضخيمها تحت تأثير العواطف والانفعالات المتأججة المتبادلة ، وذلك لإنهم الاكثر وعياً  بخطورة الظروف الراهنة البالغة الدقة والتعقيد ، وثمة مقولة للينين بهذا المعنى لا يحضرني الآن تذكر نصها حرفياً . وهذا بالضبط ما يحتاج إليه اليسار والشيوعيون البحرانيون في ظل الظروف التي ما برحت تعاني منها الساحة السياسية من جراء تلك الانقسامات الطائفية وما خلفته وتخلفه من أجواء مسمومة بالغة الإحتقان ما فتئت تخيّم عليها بقوة منذ قمع ربيع الحراك السياسي البحريني في منتصف آذار 2011 وما تركته ومازالت تتركه تلك الانقسامات من جروح عميقة غائرة على المستويين الشعبي والسياسي حيثُ اُستدرجت إليها بسهولة للتورط فيها القوى الإسلامية المعارضة بل وطالت شظاياها حتى القوى اليسارية لتؤثر ليس فقط على مستوى ما كانت تتمتع من حد أدنى من الوحدة الوطنية أو العمل الوطني المشترك ، بل وطالت حتى وحدة الحزب الواحد الداخلية على خلفية شظايا المناخ الطائفي المسموم الذي اجتاح البحرين منذ اجتياح المعتصمين  في "دوّار مجلس التعاون " بقلب العاصمة منتصف آذار 2011 وهدم النصب الذي كان يتوسطه و يرمز إلى دول أعضائة الستة وحيث بدّلت السلطة إسمه بعد الاجتياح إلى " تقاطع الفاروق " تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب بعدما كانت أطلقت عليه الإسم الأول تكريماً لوحدة مجلس التعاون !  
 
عرض مقالات: