في البلدان الاخرى عندما لا تكون شعوبها شديدة الاهتمام بثقافة الموازنات السنوية والحسابات الختامية لان ما يهمها النتائج وليس التفاصيل ولأنهم لا يعطون لظاهرة الفساد اولوية في البحث والنقاش لمحدوديتها ولانها لا تمس  حياتهم المعيشية ، على العكس مما يجري في بلادنا المنكوبة بهذه الظاهرة الضاغطة بأعلى درجاتها والضاربة في كل مفاصل حياة الناس اليومية .

ان وحدة الراي والموقف من قبل الاقتصاديين والمتابعين تتجليان في قصة  الموازنات السنوية التي تتشارك بصفات متلازمة ومزمنة منذ عام 2004 ابرزها تأخر اعدادها وغياب الاهداف الاقتصادية فيها وضعف المعايير المعتمدة في اعدادها وتعرضها للضغوط من مختلف الاطراف عندما تتعارض مع مصالحها الطبقية ومحاولة توظيفها لأغراض هذه المصالح عبر نهب  الاموال من خلال الثغرات التي تشوبها في كل عام ، وغالبا ما تخضع للمساومات عند مناقشتها في البرلمان .

  ان ابرز نقاط ضعف الموازنات السنوية تتمثل في غياب الحسابات الختامية في كل عام باستثناء عام 2015 فهو الوحيد خلال ستة عشر عاما الذي قدمت فيه هذه الحسابات وبصورة سليمة اما في بقية الاعوام فقد كانت متعثرة حيث قدمت وزارة المالية بيانات ختامية للفترة من عام 2004 ولغاية عام 2011 بدفعات لكنها في معظم الاحوال تتسم بكثرة مشاكلها والغموض في اوضاع الوزارات من حيث حجم الانفاق واوجه الصرف بسبب ما زعم عن وجود سجلات محترقة او مفقودة بسبب العمليات الارهابية او التماسات الكهربائية.  وهذه الموازنات في الاغلب  الاعم  كانت تستنسخ وتدور اخطائها في كل عام  ولهذا تشير بعض التقديرات ان قيمة الاموال المهدورة بسبب تلك العيوب تشكل 25 في المائة من كل موازنة مع تغييب لحالات  الفساد  .

  وتؤكد بعض التقديرات ان التأخر في تقديم الحسابات الختامية رغم انها الاداة الاساسية في تحديد المركز المالي وقياس قدرة الموازنات على تحقيق الاهداف

الاقتصادية والاجتماعية والمقارنة بين المخطط والمنفذ وحساب الارباح والخسائر والسيولة النقدية ومشروعية صرف الاموال من قبل الحكومة ومدى انسجامه مع القوانين النافذة وخاصة قانون الادارة المالية والدين العام ، قد تسبب في هدر 176 مليار دولار منذ عام 2012 . والسؤال الاكثر ايلاما اين ذهبت التخصيصات المالية لعام 2014 في ظل غياب الموازنة والحسابات الختامية ؟ مع العلم ان حجمها قد بلغ 120 مليار دولار  ولكن من غير المقنع  ان وزارة المالية وديوان الرقابة المالية يعزوان  تأخير الحسابات الختامية الى وحدات الانفاق الحكومية واسباب فنية مع ما يترتب على ذلك من اخفاء حقيقة  الاموال المهدورة ونفاذ الوقت امام الاجهزة الرقابية لملاحقة هذه الاموال واعادتها الى خزينة الدولة وفي ذات الوقت اعطاء الفرصة الكافية للفاسدين للإفلات من المحاسبة والعقاب .

  وبدلا من الغوص في تفاصيل تلك الملفات ومحاسبة المتسببين في الهدر المالي وحلفائهم من الفاسدين تجهد الحكومة نفسها وتنحت في الصخر من اجل تخفيض رواتب الموظفين وخاصة القاعدة الواسعة من صغار الموظفين ومتوسطيهم للخروج من الازمة المالية الخانقة دون البحث بأسباب مراكمتها وعدم المساس بطغمة الفساد لاسيما ان الحقوق والالتزامات لا تتقادم مع الزمن .

اننا نرى ان امام حكومة المؤقتة لكي تتخطى اشكاليات التأخير في تقديم الحسابات الختامية العديد من المهمات الواجب انجازها نذكر من بينها  :

  • التأكيد على الفريق الحكومي المكلف بمراجعة ملفات الحسابات الختامية والانتهاء منها واعداد التقارير النهائية وبيان النتائج المترتبة على تأخيرها وخاصة حجم الاموال المهدورة وتقصير كل وزارة ومؤسسة حكومية وتقديمها الى مجلس الوزراء لاتخاذ الاجراءات المناسبة لمعالجة اثارها السلبية .
  • مراجعة الانظمة الحسابية المعتمدة في اجهزة الدولة والتخلص ما علق فيها من ثغرات واليات لم تعد منسجمة مع الاساليب الحديثة في التدقيق وادخال نظام الحوكمة الالكترونية في عمل وزارة المالية وديوان الرقابة المالية ووحدات الانفاق في الجهاز الحكومي .
  • التنسيق التام مع السلطة القضائية فيما يتعلق بملفات الهدر المالي التي تكشفها الحسابات الختامية والمتسببين فيه وضمان اعادتها الى خزينة الدولة .
عرض مقالات: