لم يشارك العراقيون مباشرة في الحرب ضد الجحافل الفاشية، لكنهم أسهموا برصيدهم في هذا المضمار. وقد حدثني عن ذلك أول مرة موظف عراقي إسمه نانو إيشو كانت له علاقة بعمليات نقل مساعدات الحلفاء الى الإتحاد السوفيتي في فترة الحرب العالمية الثانية. وإلتقيته حينما كنت مديرا لمكتب وكالة نوفوستي في بغداد في ثمانينيات القرن الماضي.

وحدثني نانو إيشو الذي كان شيخا متقاعدا آنذاك أنه كان في عام 9421 يعمل في مصنع لتجميع المعدات في ميناء البصرة الذي كانت تصل إليه المساعدات الأمريكية – البريطانية الى الإتحاد السوفيتي بموجب إتفاق ليند- ليز. وقد أطلق الأمريكيون تسمية " الممر الفارسي " على المسار المذكور لنقل ملايين الأطنان من الحمولات التي كان يرسلها الحلفاء الغربيون الى الاتحاد السوفيتي عبر الخليج العربي. ويبدأ المسار من موانئ البصرة ومارغيل والجبيسي في العراق وعبادان وبوشهر وخرم شهر في إيران ويمر عبر اراضي البلدين حتى الحدود الجنوبية للإتحاد السوفيتي.

تواصل عمل الممر من عام 1941 وحتى نهاية عام 1944 بصفته إضافة وبديلا للطريق البحري الشمالي الذي كان النقل فيه يتسم بالخطر حيث كانت القوافل البحرية الأمريكية والبريطانية المتجهة الى مورمانسك وأرخانجلسك في شمال الاتحاد السوفيتي تتعرض للقصف الشديد من قبل الطائرات والسفن والغواصات التابعة للقوات الهتلرية.

وذكر إيشو أنه بالرغم من القيظ الشديد والرطوبة في ميناء البصرة وبلدة الرافدية كان يعمل في المصانع التي شيدها الأمريكيون والإنكليز هناك لتجميع الطائرات والسيارات آلاف العمال والمهندسين بمشاركة الخبراء والمسئولين المدنيين السوفيت .

وفي أواسط آب عام 1942 بدأ العمل في مصانع مماثلة شيدت في الشعيبة حين أقيم معسكر سوفيتي بقي هناك حتى تشرين الأول عام 4419.

وكانت تتولى أعمال النقل مؤسسة نقل سوفيتية يبلغ عدد افرادها 1500 شخص بينهم 775 من المدنيين. وكانت وحدات كثيرة تعمل تحت إشراف ضباط سوفيت وخبراء في إستخدام الطائرات والسيارات وفي خزن الذخيرة وقضايا التموين ودعم مؤخرة الجبهة.

وكانت الطائرات تحلق بعد تجميعها عبر الأجواء الإيرانية الى أراضي الإتحاد السوفيتي بقيادة طيارين سوفيت. أما الشحنات والمعدات الحربية والذخيرة والمواد الغذائية والوقود فكانت تنقل عبر شبكة طرق السكك الحديدية في الأراضي العراقية ومنها الى إيران وحتى حدود الإتحاد السوفيتي الجنوبية.

أما السيارات فكان يقودها سائقون عسكريون ومدنيون. علما إن السائق الواحد كان يستطيع القيام برحلة واحدة خلال شهر ويقطع خلالها مسافة ألفي كيلومتر من الخليج العربي وحتى حدود الإتحاد السوفيتي. ونظرا لقلة عددهم فقد وجب تأهيل السائقين العراقيين للعمل في هذا المسار أيضا.

علما إن البنية الأساسية ل ” الممر الفارسي" في مجال النقل كانت محدودة ولهذا وجب على الحلفاء تحديثها بإستمرار. وفي شهر آب عام 1941 نقل في هذا الممر 10 آلاف طن من الحمولات شهريا، وفي كانون الثاني عام 1943 نقل فيه حتى 51 ألف طن. وعموما حصل الأتحاد السوفيتي من الحلفاء عبر هذا المسار خلال سنوات الحرب على أكثر من 23 % من الحمولات العسكرية (بالأطنان). وتقول مصادر عراقية إنه تم نقل 2ر4 ملايين طن من الحمولات.

وجدير بالذكر إن طريق الترانزيت عبر الخليج العربي كان من بين الطرق الرئيسية للمساعدات الأمريكية والبريطانية الى الإتحاد السوفيتي وهو من أطول الطرق لكن من أكثرها أمنا. ونقل فيه من الحمولات حتى قدر أكبر مما نقل بواسطة القوافل البحرية الشمالية الشهيرة.

وتعتبر بعض الحمولات قياسية من حيث النوع. فخلال العملية نقلت الى الأتحاد السوفيتي 483 ألف سيارة أكثرها من ماركة ستوديبيكر.

ويتبين من تقارير الدبلوماسيين السوفيت الموجودة في الأرشيف أن العسكريين السوفيت كانوا يلقون ترحيبا من جانب العراقيين والسلطات العراقية. وكان الضباط يلقون الترحيب في شوارع المدن.

وحسب أقوال نانو فإن العمال العراقيين الذين عملوا في مصانع التجميع كانوا يكتبون على الصناديق والحاويات المرسلة الى الأتحاد السوفيتي عبارات التحية الى الجيش الأحمر باللغة العربية ويرسمون عليها النجمة الحمراء.

إن عملية " الممر الفارسي" اصبحت منسية في المنطقة المضطربة اليوم، لكن ذكرى التعاون بين الحلفاء وشعوب منطقة الشرق الأوسط في النضال ضد الفاشية باقية.

* باحث علمي أقدم في معهد العلاقات الدولية بموسكو