يكاد يجمع المعنيون بأن الثقافة بالعراق بمعناها المتداول والمتعارف عليه عند مطلع القرن العشرين لم تكن موجوده .. أذ كانت تنحصر كل الفعاليّات التي تندرج ضمن هذا المفهوم بالشعر اولا ، حيث كان هو الفعالية الأكثر شيوعا وكانت أغراضه لا تتعدّى المدح والهجاء ومراثي المنبر الحسيني التي سادت معظم النتاج الشعري خاصة في منطقة الفرات الأوسط التي هي منطقة الحماسة والدفق المتأجّج للصيرورة الشعريه .. وثانيا الصحافة التي بدأت فقيرة ومحدودة لم ترتق  لتقارب سياقات الصحافة المصرية التي قطعت شوطا مهمّا في مجال الخبر والمقالة الصحفية .. وثالثا الأنشطه الطربية التي كانت مقيّدة بأغلال المقام العراقي وكذلك بالوجع الطربي السلبي في ريف العراق .. أذن القصة والرواية والمقالة والمسرح والفن التصويري والتشكيلي لم يكن لها وجود تقريبا في ساحة الوعي العراقي في ذلك الوقت .

          وقد برزت أوّل ملامح الثقافة العراقية  المعاصرة على أيدي روّاد ثقافة اليسار في العقد الثاني من القرن الماضي ، فحسين الرحّال ومصطفى علي وعوني بكر صدقي ومحمود أحمد السيد وعبد الفتاح أبراهيم وعبد القادر البستاني ، أسّسوا المشروع الثقافي التنويري النهضوي الذي أنطوى على توسيع دائرة أنتشار المعرفة كي تدخل البيوت المحشورة في الأزقة المظلمة وتتسلّل الى حيث شعاب الريف والمراعي التي كانت ترزح تحت ظلم السلطة الأقطاعية القمعية كما أعتمد هؤلاء الروّاد منهج الفكر العلمي التحديثي الذي يقوم على المنطق في تحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، مّما عجّل في أتساع عملية تنوير الناس لمعرفة الاسباب الحقيقية لمعاناتهم من المرض والفقر والجهل .

         وراحت تظهر على صفحات جريدتهم ( الصحيفة ) المقالات الرصينة التي مهّدت الطريق لتأهيل المجتمع ثقافيا ومعرفيا ، كما نشرت أوّل المحاولات القصصيّة القصيرة لمحمود أحمد السيد الذي صدرت له أوّل رواية عراقية ( جلال خالد ) أعتبرت بعدئذ ولادة صحيّة معافاة تبشرّ بمستقبل مضيء للرواية العراقية .

         كما أخذ الشعر يخرج عن دائرته الضيّقة ليلامس أحاسيس الناس ويثير تساؤلاتهم ويأخذهم كي يطلّوا من فوق مفازته على تنوعات همومهم ، ولقد لعبت أسماء الزهاوي والرصافي والجواهري وغيرهم ( وأن لم يكونوا حينها قد توضحّت لديهم الرؤيا البيّنة للمشاكل الحقيقية للمجتمع العراقي ) دورا في زرع بذور التمرّد على الواقع المتخلّف وقرع نواقيس الصحوة الثقافية أمام مسامع الناس ، فبالرغم من كونهم لا زالوا أسيري الأغراض التقليدية المتوارثة للشعر ألاّ أن الدعوات الأصلاحية التي حفلت بها قصائدهم كالدعوة الى السفور التي قادها الزهاوي بنفسه وتحرير المرأة والمطالبة بأنشاء المدارس ومنها مدارس البنات ألتقت مع توجهّات اليسار في السعي للتغيير وتحسين ملامح الوجه المتعب للمجتمع العراقي .

         وبعد أن تشكّلت أوّل الحلقات الماركسية وطرحت فكرها العلمي عبر الصحافة والمنشور

بدأ الكثير من الناس يدركون أن منظومة فلسفية أنسانية شاملة تتبنى رؤى ومفاهيم معاصرة تدعو لتصحيح مسارات الحياة وتحريك ما ركد في ذاكرة ووجدان الفرد العراقي حيث راحت تـنير ما أدلهمّ من ظلمات موحشة لم تتح لهم فرصة أن يتبيّنوا كثيرا من الحقائق التي تمس حياتهم ومستقبلهم ، كما بدأت تظهر معالم ثقافة جديدة لم تكن مألوفة حينها أثارت حفيظة  رهط كبير من المحافظين ورجالات الدين المتاجرين بجهالة الناس ، فراحت تنشر تباعا قصص قصيرة في صحافة اليسار لذنون أيوب وعبد المجيد لطفي ومحمد بسيم الذويب وآخرين عرّفت العراقيين هذا النمط من النشاط الثقافي ، كما ساهمت فيما بعد الصحيفة التقدمية لجماعة الأهالي التي أحتضنت الأقلام الحرّة في ترسيم معالم صحافة رصينة أثرّت بشكل فاعل في نشر الوعي الوطني العراقي.

      وقد زامن ذلك ظهور بوادر لمسرح متواضع بدأه حقي الشبلي والممثلون الأوائل في الثلاثينات تحّول فيما بعد الى مسرح جاد وهادف عند تشكيل أوّل تجمّع فني قاده أبراهيم جلال ويوسف العاني وخليل شوقي وسامي عبد الحميد وبدري حسون فريد وزينب وناهدة الرمّاح وآخرون ، وأغلبهم يتبنون الطروحات اليسارية سواء بكتابة النص وأختيار الفكرة أو بالأساليب الحديثة في الأخراج والديكور والأنارة وما الى ذلك ، وقد سخرّوا المسرح ليلعب دوره المؤثر في توعية الناس وترسيخ مفاهيم جديدة ملتزمة بقضايا الشعب .

         وفي فترة الأربعينات لمع أسم الجواهري كشاعر كبير ومحرّض من الطراز الأول ، أذ راحت قصائده النارية تلهب الشارع السياسي خاصة بعد معاهدة بورتسموث عام 1948 ، وقد حسم أصطفافه لصالح اليسار تماما بعد أستشهاد أخيه في معركة الجسر ، وكانت قصائده في تلك الفترة قد أكتمل نضجها وباتت محط أعتزاز العراقيين لما أمتازت بها شروطها الفنية كالبلاغه والصور والمفردات وحرارة الأحساس والأيقاع من جهة ومن أخرى لما أحتوت مضامينها من أدانه للواقع الفاسد للنظام وأثارة مشاعر الناس ودفعهم بأتجاه الثورة والتغيير وهو ما كان يتفّق مع الخطاب السياسي والأجتماعي والثقافي لليسار ، أضافة الى تسخيره جميع صحفه التي أصدرها وآخرها ( الرأي العام ) لتكون حاضنه وصوت لمثقفي هذا الوسط .

       وبعد أنتهاء الحرب العالمية الثانية ظهرت للوجود المحاولات الأولى للشعر الحر على أيادي السياب والملائكه ومن ثم البياتي والحيدري ومردان ورشيد ياسين والبريكان وكاظم السماوي ولميعه عمارة ، وقد أصطبغت هذه المحاولات بلون اليسار وأتهّمت كونها بدعة شيوعية الغرض منها تدمير الذوق العام والأجهاز على التراث الثر والغني والعتيد للشعر العربي , بينما كانت في حقيقة الأمر ثورة أدبية قلّ نظيرها هزّت كيان القصيدة الكلاسيكية وفتحت آفاقا لا حدود لها للقريحة الشعرية كي تتنفس بكامل رئتيها متحرره من القيود التي فرضت عليها منذ أمرؤ القيس أول شاعر في المعلقات .

       وفي نفس الوقت لمعت في مجال القصة أسماء عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب فرمان ومن ثم جيان ونزار عباس وعبد الله نيازي وسافرة جميل وآخرين حيث كان لهم الدور الريادي في تشذيب النص القصصي من طابعه السردي الحكائي المحض وأغنائه بمضامين تعالج موضوعات شتى أهمها الصراع الطبقي وفضح مخاطر الأبقاء على الأعراف والتقاليد المتوارثة التي كانت تتحكّم بعلاقات الفرد بالجماعة والفرد مع ذاته ، وقد أهتمت هذه النصوص بالمشاكل الحقيقية للطبقات الدنيا من المجتمع العراقي .

       كما أسّس في نفس الفترة علي جواد الطاهر وصلاح خالص وعلي الشوك ونهاد التكرلي وناظم توفيق وموسى النقدي وآخرون ما يسمّى اليوم بالنقد الأدبي ، أذ بدأوا بملاحقة  النصوص الأدبية شعرا وقصة ورواية وأخضاعها الى دراسة تحليلية تشريحية ومعرفة مدى مطابقتها للشروط الفنية ، وهم بهذا دفعوا الناتج الأدبي والثقافي الى مرتبة أعلى ، أذ بات الأديب أكثر حرصا على تجنبّ السقوط في مزالق فنية وموضوعية تؤثر سلبا على مجمل خطابه الأبداعي .

       أما في مجال الفنون التشكيلية فقد وضع أبرز روّاد الفن الحديث فائق حسن وجواد سليم والدروبي وعطا صبري ومحمود صبري وشاكر حسن والرحّال وخالد الجادر ـ الذين وجهوا خطابهم الفني الأول الى الفقراء وأصحاب الحرف وأبرزوا الفعاليات التي تجري في قاع المدينة ـ، اللبنات الأولى لفن تشكيلي عراقي معاصر تجاوز النقل الحكائي التصويري للواقع وفتحوا أبوابا مشرعة تفضي الى رؤى حداثوية تبنّاها وطوّرها فنانوا الأجيال اللاحقة ، ومن الملفت للنظر أن هذا الفن أستطاع رغم حداثة نشأته أن يؤكد حقيقة التواصل مع الأرث الحضاري لوادي الرافدين وكأنّه وجد صداه لدى هذه الصفوة المبدعة من الفنانين .

       وكذا الحال في مجال الموسيقى والغناء .. أذ ظهر المنولوجست الشهير عزيز علي في الأربعينات والذي أنسجمت طروحاته أيضاً مع طروحات اليسار ، أذ كان بحسّه الساخر وأشاراته أللاذعه يسعى الى توعية الشعب والأخذ بيده لتغيير واقعه المتخلف . كما أستطاعت مجموعة من الفنانين التقدميين كأحمد الخليل ويحيى حمدي وعباس جميل ومحمد عبد المحسن ورضا علي ومحمد كريم أن يؤسسّوا مدرسة غنائية متحررة من أسر القوالب المحنّطة للمقام العراقي والأنتقال بالأغنية الى مرحلة تنسجم وأيقاع العصر المتسارع ، أضافة الى الحضور الفاعل للأخوين جميل ومنير بشير والباحث الموسيقي فريد الله ويردي في أغناء مادة الموسيقى عزفا  ونقدا ودراسات ، وبالتالي أثمرت هذه الأنشطة والأرادات الخيّرة والمبدعه الى تأسيس الفرقة السمفونية العراقية .

       وأستمر اليسار في تخريج دفعات من المبدعين في شتى المجالات ذوي تأثير فاعل ليس على صعيد العراق بل على صعيد الوطن العربي عموما , فعلى سبيل المثال برزت أسماء مظفر النواب وسعدي يوسف ورشدي العامل ويوسف الصائغ والصكار وهادي العلوي ومهدي الصقر وكاظم حيدر وأرداش كاكافيان وضياء العزاوي ومهدي مطشر وصالح الجميعي وناظم رمزي وجبر علوان وصلاح جياد وفيصل لعيبي وقاسم حول وقاسم محمد وطه سالم وعريان السيد خلف وكاظم اسماعيل وناظم السماوي وعزيز السماوي وطالب غالي وكوكب حمزة وجعفر حسن وعشرات غيرهم .

       وحتى في زمن الدكتاتورية البغيضة , ظلّ اليسار العراقي يرفد الساحة الثقافية بألمع الوجوه والطاقات الأبداعية الخلاّقة , ألاّ أن أغلبهم أختار المنفى ملجأ دائما لكي تتيح لهم أجواء الحرية هناك فرصة للأعلان عن خطابهم ومنجزهم الفني والنجاة من محرقة الحروب التي عانى منها من آثر البقاء في الوطن .

       أن الغالبية العظمى من الأدباء والفنانين العراقيين أرتبطت بشكل أو بآخر باليسار العراقي وبالفكر الماركسي ، ولم يكن أرتباطهم بهذا الفكر بسبب معناه الآيديولوجي الضيّق ولكن بسبب معناه التجديدي المعاصر وقدرته على التكيّف وفق مستجدات العصر ، وكأّن عربة هذا الفكر تسير على درب لا نهاية له، وكذلك بسبب أعتماده الأنسان كأعلى قيمة بغض النظر عن تلاوينه القومية والأثنية والدينية، أضافة الى كونه صاحب المشروع النهضوي التحديثي منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا .

        من كل ما تقدّ م  يتضح لنا جليّا أن حصة اليسار في ثقافة العراق المعاصرة هي الحصة الأعظم والأكثر تأثيرا وفاعلية ، وأسماء مبدعيه هي الأسماء المضيئة في سماء الثقافة والمعرفة العراقية والعربية ، ولم يتحقق لأي فكر آخر أن قدّم نماذج عالية القيمة  بهذا الكم والمستوى الى الساحة الثقافية ، حتى بدت هذه الساحة حكرا وملعبا لليسار دون غيره .

       وهنا يحقّ لنا أن نتسائل ألا يستحق اليسار العراقي الذي قدّم كل هذه الأسماء والذي خبر مسالك وعوالم وآفاق المعرفة طيلة أكثرمن ثمانين عام ، والذي أمتلك كل هذا الخزين التراكمي من الخبرات والأنشطة الثقافية المنوعة ، والذي قدّم خيرة أبناءه ( وهم قادة الفكر والثقافة في العراق ) الى مذبح الحرية .. نتسائل الا يستحق هذا اليسار أن يقود الثقافة في عراق اليوم ؟ .. فهو الوحيد الذي بأمكانه أن ينهض بمهمة بناء مرتكزات متينة لصرح ثقافي حر تقدمي ، وهو الوحيد الذي له الحق الأعتباري والأخلاقي للأعتزاز بتأريخه الثقافي ، كما له الحق في أن يتصّدر ويحدو مواكب المبدعين وهم يغذّون السير الى حيث شمس الحرية والمعرفة الوهّاجة .

        لقد آن وقت المراجعة الشاملة لمواقف كل الأطراف الفاعلة في الساحة الأن من أعادة ترميم الثقافة في العراق ، وعليها أن تختار وتؤشرّ الى الطرف القادر على تحمّل هذه المسؤولية الخطيرة والأمانة الثقيلة ، فسوف لن يجدوا سوى اليسار أرادة ومرتعا للحب والمعرفة وفهم الحياة .

 

 

عرض مقالات: