تناولت بعض وكالات الأنباء أخبارا عن وجود مشروع لقانون تحت عنوان ،من أين لك هذا ، يجيز للحكومة استعادة الأموال المسروقة والمهربة الى الخارج ، والحقيقة أن السامع يصاب بالغثيان وهو يتأمل هذا الحماس النيابي او الحكومي أمام أمر لا حاجة لنا معه الى قانون جديد ، اذ لو تركنا جانبا القوانين الوضعية واتجهنا صوب القانون الطبيعي لوجدنا فيه ان المسروق يجب أن يعاد الى صاحبه وكذا نصت قواعد مسلة حمورابي بدلالة القانون الطبيعي ، فما بالكم بأموال عامة سرقت وهربت في السر والعلن وأمام الجميع ، حكومة وبرلمانا وشعبا ، ولو ترك أي منا تقاليدنا وعاداتنا وثوابت الدين الحنيف جانبا وأخذ بحكم المنطق ، لكان القرار بالاستعادة فورا دون اي سابق تفكير ، وأيضا لو تركنا جانبا نص المادة 307 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، لوجد ان التحرش بالمال العام جريمة مخلة بالشرف يطأطأ لها الرأس وكان مرتكبها في الأمس القريب لا يسير مرفوع الرأس في الشارع ولا يرتاد المقاهي ولا يدعى لوليمة ولا يزوج امرأة (ينبذ اجتماعيا ) ولو أخذنا على سبيل المثال بنص الفقرة 1، 2، 3، من المادة الرابعة من قانون الكسب غير المشروع على حساب الشعب رقم 15 لسنة 1958 ، وتعديله الوارد في القانون رقم 16 لسنة 1958 لوجدنا ان الاستحواذ على فرشة التنظيف في الدائرة عمل يحاكم عليه الموظف او المستخدم او الفراش سابقا.
ان من اسباب تقديم مقترح قانون استعادة الأموال المسروقة هو عمل مسبق يراد به تعطيل أحكام القوانين العراقية النافذة وتأجيل تطبيقها ، فالنوايا المبيتة واضحة ، إلا وهي عدم قيام أغلب المسؤولين الحكوميين منذ السقوط بتقديم كشف الذمة، حسب أحكام المادة الأولى من قانون الكسب غير المشروع اعلاه ومفادها ،على رؤساء الوزارات والوزراء والحكام والقضاة والضباط والأئمة ونواب الضباط بالقوات المسلحة، والضباط والمفوضين ونواب المفوضين بالشرطة، وعلى كل موظف عام آخر من غير العسكريين ورجال الشرطة وكل مستخدم من المستخدمين الذي يصدر بتحديد اصنافهم او فئاتهم قرار من مجلس الوزراء وعلى كل عضو في مجلس الأعيان او النواب او في أحد المجالس البلدية او الادارية او مجلس أمانة العاصمة ان يقدم خلال شهرين من تاريخ تعيينه او انتخابه إقرارا عن ذمته المالية وذمة زوجته وأولاده القصر في هذا التاريخ ، يتضمن بيان ما له من أموال منقولة (عدا الأثاث الاعتيادي ) او غير منقولة وعلى الأخص الاسهم والسندات والحصص في الشركات وعقود التأمين والنقود والحلي والمعادن والأحجار الثمينة وما له من استحقاق في الوقف وما عليه من التزامات .
ويسري هذا الالتزام على من تقدم ذكرهم وعلى موظفي البلاط الملكي السابق والخزينة الخاصة والموردين في الخدمة وقت العمل بهذا القانون او الذين يكونون قد تركوها بعد اول أيلول سنة 1939. لقد أردنا بالعرض أعلاه وهو جزء من المادة الاولى من هذا القانون ان نوضح للملأ ان القوانين النافذة هي كافية بالمطلق للوصول الى غاية المشرع والإرادة الشعبية بمحاسبة كل موظف حكومي مهما علت او دنت درجته الوظيفية عن كل ما يتعلق بالمال العام ،كما ونود ان نذكر بأحكام نص الفقرة الاولى من المادة 307 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل والتي مفادها ، كل موظف او مكلف بخدمة عامة طلب او قبل لنفسه او لغيره عطية او منفعة او ميزة او وعد بشيء من ذلك لأداء عمل من أعمال وظيفته او الامتناع عنه أو الإخلال بواجبات الوظيفة يعاقب بالسجن مدة لا تزيد عن عشر سنين او بالحبس والغرامة على ان لا تقل عما طلب او أعطي او وعد به ولا تزيد بأي حال من الاحوال على خمسمائة دينار. ، وقد تم منع إطلاق سراح المتهم بجريمة الاختلاس او السرقة او الرشوة سواء أكان في دور التحقيق او المحاكمة حتى صدور حكم او قرار فاصل بالدعوى. وقد اوردنا نص هذه المادة لأننا نجدها هي وراء الاختلاس والمساعدة على سرقة المال العام وتهريبه ، فالرشوة هي الطريق الممهد لكل فساد .ان حكومة ثورة 14 تموز عام 1958 وبعد ان رفعت قواعد الحزب الشيوعي وجمهرة المواطنين شعار من أين لك هذا ، أرادت أن توجه لكل منتسب حكومي انذارا بأن الكل بعد اليوم أمام القانون وان كشف الذمة هي اولى خطوات الكشف عن الفاسدين ، وان من يطالب اليوم بإصدار قانون جديد عليه هو نفسه ان يكشف عن ذمته المالية ، كما كشفها الامام علي (ع ) حين خاطب اهل الكوفة قائلا لو خرجت منكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فأنا خائن ، ونود ان نشير اذا كانت نوايا القابضين على السلطة متجهة جديا لمحاربة الفساد ، فان اعادة تشديد العقوبات المنصوص عليها بالمواد 315، و316،و 317 ،و 318 ، و 319، و320 ، و321 من الفصل الثاني من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 وتعديلاته ، ستكون كافية لردع الفاسدين ومجزية لاستعادة الأموال المنهوبة .
ان الانفلات في الصرف الحكومي واختراق الضوابط المالية القديمة ، بعد قرارات الحاكم المدني بول بريمر ، يضاف إليها جشع من تولى السلطة بعد عام 2003 ، كانت وراء هذا الكم الهائل من الفساد ، اضافة إلى تولى الإدارات العليا في الدولة من جانب الجهلة بأصول الصرف او المستهينين بهذه الأصول وغياب دور الرقابة المالية او تنصيب من هو سيئ على هذه الرقابة ، وعوامل ذاتية واخرى موضوعية ، كانت وراء تعطيل القوانين وتفعيلها إزاء المرتشي والمختلس والمزور والمتجاوز على المال العام والعقار العام والقطاع العام والطريق العام والأمن العام ، وهنا نود بكل إخلاص ان نقف أمام القضاء العراقي لتحريك الدم في شرايينه كي يعود الى صحة مواقفه وقوة اجرائه لما هو مطلوب منه في مسألة تحريك الدعاوى ضد الفاسدين والعودة الى ماضيه التليد في محاربة الجريمة المالية ، لأنها هي من يقف اليوم في مقدمة الجرائم المخلة بالشرف ، ولولاها لما كانت هناك جرائم الاتجار بالمخدرات او جرائم الاتجار بالبشر او الاتجار بالآثار الثمينة وغيرها من بدع الجرائم المستحدثة بعد السقوط،. فالعبرة لا بالمناداة كذبا لسن القوانين، بل العبرة في التطبيق، وقانون العقوبات لو تم تعديله في ضوء المستجد من الجرائم، او تطبيق قانون الكسب غير المشروع. فان النتائج ستكون على اقل تقدير بدايات صحيحة لتجاوز أزمة صنعها المحتل واستظل بها الفاسدون.