حقـا لقد كان حلمـاَ للكثير من العراقيين ممن انهكتـه عـذابات الغربـة بالعـودة حبـاً وشـوقـاً لوطنهم وان يخـدمـوه على ما اكـتنزوا من الخبرات والكفاءات العلمية والعملية في مجالات اختصاصاتهم في بلـدان مهجـرهم وشـتاتهم لسنين، والمشاركة الفعالة في البناء والاعمار والاسـتثمار في بلـدهم، وذلك عن طريق استحصال عـقـود لمشاريع الاسـتثمار من هيئات الاسـتثمار في المحافظات او العمل فيها، الا ان الكثير من هذه الكفاءات للاسـف عادت خائبة محبطة الى شــتاتها وغـربتها بخفي حنين، وذلك لما لاقته من عـوائق وعـوارض وتجاهل واهمال ووعـود مهللـة كاذبة مـزيفـة من هنا وهناك، بل وتعـدى الامر الى محاربتهم والتضيق والتجـاوز او حتى الاعـتـداء عليـهم رغـم المجـازفة لخطـورة الوضـع الامني العـام وعـدم اسـتقراره، مما حـدى بالكفاءات اوالشـركات والحالمين بالعـراق الجـديد الى ترك مجالات العمل هـذه رغم اضاعتها الوقت والمال والخسـارة المعنـوية، بين انتظار صحة الصدور والبطاقة التموينية وانتظـار ختم المختـار، والانتظار الممل في شـبابيك دوائر الهجـرة والمهجـرين خصـوصا من لبى القرار رقم 441 لسنة 2008 لمجلس الوزراء، من العراقيات والعراقيين، (حول تسهيل عـودة الكفاءات العلمية من حملة الشهادات)، حيث غادر قسم من شـركات المقاولات الانشائية الاسـتثمارية الاجنبية غير مبالية من اضاعتها للامـوال المصـروفة سـواء في أعـداد التصاميم المعمارية او في استيراد المعـدات والاليـات والتهيئة الاولية للمشروعات المقترحـة، خوفا من خسارات لاحقـة، وبعد ذلك تركها للمواقـع واغـلاقها لسنين بسبب الكثير من العـوائق.

من التجارب والخبـرة الفعليـة مع هيئـات الاسـتثمار وبالتحـديد في المحافظـات الوسـطى والجنوبيـة ؛ بابل، النجف، كربلاء، البصـرة، وعلى امـتداد اكثر من 10 اعـوام مضت، حيث تسنى رغم المضايقات والصعوبات بالعمل مع بعـضها مـرورا بالهيئـة العامـة للاســتثمار في بغـداد الى باقي المحافظات والتي تـكاد ان تكـون متشابهة، رصد الكثير من المشاكل والاشـكاليات، الاساليب المتدنية، السلبيات والثغرات، الاخطاء والممارسات في عمـل واداء هـذه الهيئات، عن قـرب وبعـد، والذي انعكس سـلبا على مهمة تنفيـذ المشاريع لشـركات البناء والمقاولات المحلية والشـركات الاجنبية وفشل مهمتها وتعـطيل تنفيـذ مشـاريعها وتجاوزها الخطط التنفيـذية والمـدد الانجـازية.

أهلية هيئات الاستثمار

ومن التجـربة الواقعية فان الهيئة الوطنية للاسـتثمار في بغـداد وهيئات الاستثمار في باقي المحافظات هي هيئات غيرمـؤهلـة من حيث مكاتبها واقسامها وكوادرها الرئيسية المتخصصة، حيث ان عـدد المحامين والحقوقيين فيها اكثر من عـدد المهنـدسين الشباب الذين هم بعـدد اصابع اليـد ؛ والتي كان يجب ان تكون للهيئة في الاسـاس ؛ العـدد الكافي من المهندسين الاكـفاء من معماريين ومـدنيين مصممين وتنفيـذين واسـتشاريين ومسـاحين فنيين متابعين مشـرفين وذوي خبرة في تنفيذ المشاريع ووضع وتخطيط ورسـم البرامج التنفيـذية والاشـراف عليها، ودراسة سـيرة الشركات المتقدمة للاستثمار والتأكـد من خبرتها وامكانيتها وماهية مشاريعها والـجـدوى الاقتصادية لها بمهنية هندسية عاليـة واضحة بعيـدة عن التأثيرات والوساطات الحزبية من الجهات المؤثرة والمتنفذة في المحافظات والحكومة بحيث تكون المنافسة حرة مستقلة، فغالبية كـوادر هيئات الاسـتثمار في المحافظات من حديثي الخبرة والتأهيل والكفاءة ؛ والقسم الاخر مسلكين بعيدين كل البعد عن التصاميم المعمارية والانشائية الحديثة ومواصفات مـواد البناء وخصائصها ومتطلبات الدفاع المدني الحديثة وطرق واسـاليب التنفيـذ والاشـراف الهنـدسـي، ومنهم لم يمتهن اختصاصه الهندسي والخبرة الهندسـية قبل فترة تشكيل الهيئات، حيث تم تعينهم عن طريق المحاصصة الحزبية والطائفية، وانصب الاهتمام على الاستفادة من هذه المشاريع بطريقة الابتـزاز او التأخير في اصدار الكتب الرسمية للجهات المعنية رغم بيروقراطيتها، واستشرت فيها الوساطة والمحسوبية والمنسوبية والنصب، وسماسرة المقاولين في بعض الاقسام، وبدأ اخطبوط الفساد حياكة خيوطه فيها، الامر الذي ادى الى عرقلـة المشاريع وتلكـئهى وتأخيـرها دون غيرها.

الروتين والبيروقراطية

يمضي مستثمر المشروع وممثله لساعات طويلة في انتظار طباعة كتاب رسمي الى الهيئات المحلية والوزارات ذات الشـأن والصله، بل تؤجـل لايام، وبالشـافعات وعند صدوره وارساله ووصوله الى هذه الـدوائـر والجهات المعنية، تطلب الاخيرة ارسال صحة صدور لهذا الكتاب، لينام لاسـابيع في دواليب ومكاتب الموظفـين، وعند المراجعة تؤجل للاسـبوع القادم وبنهايتة قـد حلـت اجازة الموظف السنوية فتراكمت على مكتبه مئات المعاملات التي ليس لها اول ولا اخر ولا وارد او صادر، يصيبك الملل والتعب لطول الانتظار، واذا صادفت مناسبة ما (شـهر محـرم)، تغلق الشوارع، والمراجعة الى ما بعد انتهاء المراسيم، وفِي المحصلة لا يرى الكتاب النور، ولا موافـقـة لاعمـال البناء ودخـول المـواد من الضابط المـأمـور. ترجع يائسا لاعنا تلك اللحظة التي سافرت فيها من المهجر الى هذا العـذاب. بعـدها يـزورك شـخص ما (طارش) ويحل ضيفا في المشروع مرسـل من قبل سـماحة الســيد للمساعدة لحل الاشـكال مقـدما عرضه لاتعـابه بالعملة الخـضراء متناسـبا مع حجم الشركة المنفـذة ومـوطنها.

تمر الايـام، ولم تزل المشـاريع أسـيرة تـراوح في الاجـراءات التحضيرية لها واحتياجاتها من موافقات عـديـدة ؛ هيئات الكهرباء والماء والاتصالات ومديرية البلديات والمجاري (والتي لا تمتلك الخرائط لخطوطها منذ عـهـود) وذلك لتصريف المياة الارضية للمشروع، وغيرها من دوائر البنية التحتية، حيث ان توفير الكهرباء والماء هـو الاساس بالنسبة لاي مشروع استثماري لتشغيل معداته وآلياته وتشغيله فيما بعد، وبما ان هيئـة الكهرباء في المحافظـة عاجـزة عن توفير الكهرباء، وان توفـرت فهي بالاسـاس شحيحة ومتقطعة لساعات طويلة وهي من الازمات التي لازال يعاني منها البلـد الى الوقت الحاضر، مما تضع المستثمر في مـأزق وحيرة، تضطره للمناشدات لهذه الهيئات غير المهتمة لـتـزويده، وتضطره للبحث عن طرق اخرى وصرف مبالغ اضافية كشراء المولـدات من الخارج، وتتطلب توفـير الوقـود لتشغيلها، ليس عن طريق هيئات توزيع الوقـود والغاز بل يضطـر عن طريق سماسرة النفـط والغـاز ومجهـزيه المحليين (السوق السوداء)، وهنا تقف هيئة الاستثمارعاجـزة لا حول لها ولا قوة، الا بتزويد المستثمر بكتاب معنـون الى هيئات توزيع النفط والغاز في المحافظة لا يغني من جـوع ويضيع الامر بشتى الاعـذار، وبعدها يتأتى مسلسل المـوافـقـات الامنية ؛ لدخـول النفـط لهذه المولـدات ولدخول مـواد البنـاء ولحركـة الاليـات لنقل الحفـريات واعـادتها للردم فيما بعـد (وكل مسؤول يرمي المهمة عن تقـديم المساعـدة للمستثمر على صلاحيات هيئة اخرى)، وان قدمت المساعدة في تسهيل المهمة فقـد امليت على الشـركة المنفـذة الاستثمارية شـروط الدفع، والا فلتـذهـب الى الجحيم.

تعدد مصادر القرار

التراجـيديـا تسبق البـدء باعمال الحفريات والتسوية بفتـرة طويلة تمتد لاشهر، والمكائن المركـونة يتخللهـا الصـدأ ؛ الا وهي تحـديد ابعـاد المشروع ومساحته وارتفاعـاته، وماهية الجهة المخولة في تحديد تلك المـوافقـات والتصديق عليها، أهي ؛ هيئة الاسـتثمار في المحافظـة، المحافـظ ام نـوابه ام مجلس المحافظة، دائرة الاراضي، دائـرة العقـاري، أيجـار الاراضي والضريبـة، دائـرة المنازعات والورثـة والملكـية، دائرة المساحة والطـرق في البلـدية، دائرة التخطيط العمراني، الـدفـاع المدني، ناهيك بان كل هذه الدوائر لا تمتلك اجهزة ومعـدات المساحة الدقيقة ولا الكادرالمؤهـل لحسـم متطلبات هذه المشاريع الاسـتثمارية، ولم يجر حسم كل المشاكل المتعلقة بقطع الاراضي والجهة المستملكة، حيث كل مـدراء هذه الدوائر والمديريات قـد لوحوا مقـدما بفـواتيرهم الا مانـدر. لقـد كان على هيئة الاستثمار في كل محافظة ان تحسم كل القضايا العالقـة والمتعلقة باراضي المشاريع الاستثمارية وتهيئتها خاليـة من كل المشـاكل قبـل البـدء والتعـاقـد مع الجهات والشـركات الاســتثمارية خاصة الاجنبية وتسهيل الامـور للمستثمر الاجنبي وحمايته، لذا فان الفساد والبيروقراطية والتخلف المستشري قـد دب في ادارة هيئاتها، حيث وجود ادارة اقتصـادية داخل الهيئة الواحـدة تابعة لجهات متنفـذة، ناهيك عن تبعية المديـريات والهيئات للكتل السياسية المتحكمة بالسلطة والقرار والتي تتعـارض مع قانون الاسـتثمار الصادر سنة 2006 وما يتضمنه من ثغرات في لوائحه المصاغـة والمتغيرة، حيث ان من اهم العوامل المشجعة للمسـتثمر الاجنبي هو الاستقرار القانوني للاسـتثمار.

معرقلات الاستيراد

وبصـدد عملية استيراد مواد ومعـدات البناء وخصوصا الحديثة المستخدمة في الشركات العالمية والتى تتطلبها المشاريع وغير المتوفـرة او لم تستعمل داخل العراق، تتعـرض للمماطلة والابتزاز اوللسـرقة، وذلك لعدم ادراك اهمية استخدام هذه المواد من الهيئة ومنها المواد التكميلية للبناء وعرقلتها او لفسـاد دوائر الكمارك والمنافذ الحـدودية والتى هي الاخرى تابعة للاحزاب ناهيك عن التلكوء في تهيئة الكتب والمناشدات الرسمية من قبل الهيئة العامة للاستثمار في بغداد بما يتعلق بالاعفاء الكمركي حيث تفقد في دواليب موظفيها، وتصل متأخرة الى المنفذ الحدودي، تتبعها مسرحية التخليص من الكمارك وشحنها الى المشاريع وامكانية تعرضها للتلف وللنهب في الطـريق حتى وصولها بعد حين.

التساهل مع الغش

اما عند استعمال مـواد البناء المحلية الاساسية مثل الخرسانة او الاسمنت وغيرها من خلال المجهزين والمقاولين المحلين والذين في اغلبهم ليسـوا من ذوي الاختصاص، لايعيرون اهمية في تقديم المواصفات لهذه المواد ولا يعلمون خصائصها او مكان المنشأ والانتاج والمعايير والاوزان، فيبدأ المجهـز بالغش وتغير المعاير المتفق عليها، وان جرى تغيره، يسبب للمشروع مشاكل تصل لحـد التـجـاوز او الاعتـداء. حيث لم يكن المجهز والمتعاقـد المحلي بمستوى التجهيز لهكذا مشاريع استثمارية كبيرة لا بالمـواد ولا بحداثة الاليـات. وما يتعلق بالعقـود المحلية لمقاولي الباطن وتشغيل العمالة المحلية فتنهال على المشروع اوالشركة المنفـذة عـدة عراقيل منها تدخلات ممثلي اتحاد المقاولين في المحافظة بفرض شـروطهم التعجيـزية بل يتعـداه الى محاربة الشركة الاستثمارية بشتى الأساليب وقد تصل الى التهـديد والعشائرية ودفـع (الجـزية والـدية)، وعـدم تقـديم التسـهيلات لهذا المشروع دون غـيره لارتباطهم وعلاقتهم مع الدوائر المختصة في المحافظة، كـدائـرة تشغيل العمـال والضريبة والشـؤون الاجتماعية وحتى الامنية.

العمالة الماهرة

من العوائق الاخرى التي تجابه تنفيذ المشاريع الاستثمارية ما يتطلب استخدام مختلف معدات البناء والاليات والمكائن لغرض التقليل من المدد الانجازية، والتي يتطلب تشغيلها الى مشغلين فنيين وعمالة ماهرة من الخارج، وهنا تبرز العراقيل والصعوبات في استحصال تاشيرة السـفر والدخول واجراءات الاقامة والسـكن لهذه العمالة، حيث مرة اخرى تتجـدد التداخلات والموافقات من الجهات المخولة والمسيطرة، من الداخلية والامنية الى وزارة الخارجية ثم وزارة العمل وشؤون العمال واتحادات المقاولين وكل حسبما يـرتـأيه ويـرتضيه وشروطه المحاصصية.

عدم كفاءة المصارف

وفيما يتعلق بجانب البنوك والمصارف الاستثمارية وتوفير الامـوال والتحويلات المالية، فان اغلب المصارف المحلية والاستثمارية قليلة في بعض المحافظات، وان وجدت فهي قليلة الخبرة وتـدار باسلوب بـدائي فاشـل (ما عـدا محافظة بغـداد بعض الشيئ). حيث لم تستحصل التحويلات المالية في اوقاتها المحـددة، مما يؤثـرعلى دفع الاسـتحقاقات والاجور للعمالة والموظفين وتكلفة مـواد البناء والتجهيزات والمستحقات الاخرى، ناهيك عن اهمية تقـديم الدعم والتمـويل من هـذه المصارف الاسـتثمارية للمستثمر والمشاريع الاستثمارية والمتعارف عليها في بقية البلـدان التى شجعت الاستثمار وجذبت المستثمر ودعمته وسهلت مشـاريعه.

ان جميع العـوائق والمشاكل التعجيزية والصعوبات التى صاحبت المشاريع الاستثمارية في البلـد أدت الى زيادة الكلفـة في المشاريع الاستثمارية والتى تصل بنسبة 100% عن دراسة الجدوى الاقتصادية، وزيـادة الفترة الانجازية للمشروع الى اكثر من ثلاثة اضعاف الفترة الزمنية المقترحة مما جعل المشـاريع الاسـتثمارية غير مجـدية اقتصاديا. حيث لم تكن هيئة الاســتثمار العامـة وهيئاتهـا في المحافظات (بمثابة وزارة) وقانون الاستثمار مهيئة للعمل وجذب الشركات الاسـتثمارية الاجنية ورؤوس الاموال والاخـذ بتجـربة البلـدان التي نهضت بفضل ادارتها الحكيمة للاسـتثمار (بالاخص تجـربة الاستثمار في دول اسـيا)

عرض مقالات: