إعداد وترجمة: محمد توفيق علي

عقب فشل محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي في محاولاتهما لتشكيل حكومة عراقية جديدة، يحلّ محلهما الآن مصطفى الكاظمي، رئيس جهاز المخابرات الوطني في العراق. ولا يمكن التكهن باحتمال نجاحه. ولكن يبدو أن الكاظمي يتمتع ببعض المزايا مقارنة بسابقيه: انه خيار التوافق للقيادة الشيعية الرئيسية في العراق، ويتمتع بدعم واسع من الطيف السياسي، بما فيهم اقسام من ما تبقى من الحركة الاحتجاجية. وهذا لا يضمن تمكنه من تشكيل حكومة، ولكن حظوظه تبدو جيدة في الوقت الحاضر.

وفي نهاية المطاف، يعتمد الأمر على مدى محاولة الكاظمي لزعزعة الواقع السياسي القائم الذي تحاول النخبة السياسية العراقية كل امكاناتها الحفاظ عليه. ان العامل الذي أدى الى فشل كل من علاوي والزرفي كان الشك السائد وسط الطغم السياسية العراقية بأنهما سيتحديان نظام المحاصصة الطائفية – الاثنية والفساد وسلطة الأحزاب التي تمثل سمة النظام السياسي العراقي وتوفر مرتكزات شبكات الولاء التي تديم بقاءه.

لا ريب في أن هذا الواقع القائم تطور منذ الاطاحة بنظام صدام حسين في 2003. ان سياسات الهوية الطائفية – الاثنية التي حددت النظام السياسي في مرحلة ما بعد 2003، تم تحديها بكثرة من قِبل أقلية صغيرة ضمن النخبة السياسية ومن قِبل جماهير غاضبة تنامت مشاعرها بالإقصاء بسبب مؤسسات الدولة الفاشلة وسوء الحُكم والفساد المتفشي. وبدأت السياسة المبنية على قضايا محددة بالانتشار، وكانت المحركات الرئيسية للحركة الاحتجاجية التي تفجرت في بغداد وفي المحافظات الجنوبية في العراق في 2019.

وفي نفس الوقت باتت الحياة السياسية العراقية السائدة مفككة أكثر خلال الأعوام الـ17 المنصرمة. فالخلافات السياسية والطموحات المتنافسة خلقت انقسامات دائمة في الكتل القائمة على اساس الهوية التي هيمنت في السنوات الاولى من النظام في مرحلة ما بعد 2003، الأمر الذي أدى الى المزيد من التشرذم والصراعات للتوصل الى توافق على قضايا رئيسية. ومن نواحي عديدة اختزلت الحياة السياسية العراقية الى القاسم المشترك الأدنى – وهو حماية نظام المحاصصة المبني على الولاءات، الذي يحافظ على سلطة الأحزاب وامتيازاتها – مع عجز هذه الجماعات المنقسمة عن الوصول الى توافق على أي شىء آخر. وحتى لا توجد رؤية مشتركة داخل النخبة السياسية حول كيفية حماية الواقع القائم بأحسن وسيلة، سوى انه ينبغي حمايته، وخصوصاً في مواجهة خطر يهدد وجودها كالذي كانت الحركة الاحتجاجية تمثله.

هذان العاملان – الهدف المشترك وتشظي اللاعبين – حددا مسار البحث عن رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة منذ أن أجبر عادل عبد المهدي على تقديم استقالته في تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي. وهما سيحددان هامش المناورة الذي سيتمتع به الكاظمي وحكومته اذا افلحا في الحصول على تأييد مجلس النواب خلال الاسبوعين القادمين.

ان الكاظمي، الصحفي والناشط في حقوق الانسان سابقا، قد يكون رجلا يتصف بالنزاهة وربما لديه غرائز اصلاحية. ولكنه ليس شخصية غير تقليدية او من خارج النظام، واسلوب اختياره يشير الى أن النخبة السياسية تعتقد بأنه سوف لن يهزّ القارب ويهدد الواقع القائم بأي شكل ذي معنى. ولم يكن بأي حال هو الخيار الأول للطغمة المهيمنة، ولكن من الواضح انه ينظر اليه كحل وسط حتى من قبل بعض الكتل، مثلا الفتح والاجنحة السياسية المرتبطة بها لبعض المليشيات الشيعية، التي رفضته في البداية باعتباره مواليا كثيراً لأمريكا ومناوئاً كثيراً لمصالحهم السياسية والاقتصادية. ويدين الكاظمي بفرصته الى شىء ما من القدرة على البقاء بالمقارنة مع آخرين الى جانب حسابات بدم بارد من النخبة السياسية

تنطلق من المصلحة الذاتية.

ومن المحتمل ان تعكس تشكيلة حكومة الكاظمي هذه الحقيقة. وبخلاف علاوي، يبدو الكاظمي أكثر استعدادا للتعامل عن قرب مع الكتل الرئيسية في مجلس النواب لاختيار وزراء حكومته. ويرجع ذلك في جانب منه الى ادراك حقيقة ان العراق لايزال من الناحية الشكلية نظاما برلمانيا. وتتولى لجنة تمثل الكتل السياسية دعم عملية الاختيار، واذعن الكاظمي للمطالبات بأن تعكس حكومته التوازنات الطائفية – الاثنية.

ومن المحتمل أن تخضع سياساته لتأثير مشابه. ان حكومة برئاسة الكاظمي لا يتوقع أن تغيّر السياسة الخارجية العراقية بشكل ملحوظ. وفي الوقت الذي تبدو فيه صلاته مع الولايات المتحدة معروفة بشكل جيد، وله الفضل في تحسين علاقات العراق مع جيرانه العرب، فان الكاظمي أدار جهاز المخابرات الوطني العراقي الذي عمل جنباً الى جنب مع نظرائه من الأجهزة في طهران، وبالأخص في ذروة الحملة ضد "داعش". وما كان سيحصل على الدعم الذي أحرزه لرئاسة الحكومة لولا قبول ايران الضمني، وقد رحبت الجمهورية الاسلامية بحرارة باختياره.

 وعلى الصعيد الداخلي، لربما يتوقع ايضا من حكومة الكاظمي ان تختط مساراً محافظاً الى حد ما. وسيتمثل احد الاختبارات المبكرة لنواياه في كيفية تعامله مع قانون الانتخابات الجديد الذي سيحدد، ضمن قضايا أخرى، الدوائر الانتخابية وتركيبة مفوضية الانتخابات المستقلة. ان اجراء انتخابات مبكرة هو احدى الأولويات للحكومة المؤقتة، و الكاظمي – اذا أفلح في تشكيل حكومة – سيحتاج الى ان يختار من بين اقتراحات تشريعية متنافسة، بعضها يحفظ سلطة الكتل السياسية السائدة وأخرى يمكن أن تؤدي الى إضعافها. ويحتاج التشريع أيضا الى تحديد تاريخ لإجراء الانتخابات، وهو شىء سعت الأحزاب  السائدة الى تأجيله.

وثمة اختبار كبير ثاني لأية حكومة جديدة سيكون المهمة الحساسة في ان تقرر ما اذا ومتى تحاسب الجماعات والمؤسسات المتهمة بقتل أكثر من 600 من المحتجين خلال تظاهرات الخريف والشتاء الماضيين. كان الكاظمي يتمتع بشعبية في الحركة الاحتجاجية لأن جهاز المخابرات الوطني اتخذ اجراءات لحماية  المتظاهرين. على اي حال، اذا اقدم على تشكيل حكومة تحقق في التهم ضد مرتكبي اعمال العنف بحق المحتجين فانه سوف يزعج بسرعة بعضا من اولئك الذين دعموا ترشيحه.

 تشير هذه المعضلة الى قضية أكبر، ألا وهي: ما ذا تعني حكومة تحمي عموماً الواقع السياسي القائم (سواء كان الكاظمي يرأسها او أي شخص آخر) لمستقبل العراق؟ فاذا لم يتم معالجة القضايا الأساسية التي تضعف الدولة – أي المحاصصة والفساد واحتكار النخبة السياسية الراهنة للسلطة – واذا لم يجر تحقيق أي اصلاح ذي معنى، كيف يمكن إحداث تغيير بعكس الاتجاه في حال الاغتراب الشعبي الذي حرّك الاحتجاجات طوال الخريف والشتاء الماضيين؟ وكيف يمكن لشرعية النظام الراهن ان تتعافى؟ ان العلل في المنظومة السياسية بنيوية، وليست مرتبطة بأفراد. ان استبدال رئيس الوزراء من دون التعامل مع هذه العلل لا يعني شيئاً.

وحقا، من المحتمل ان تواجه مصداقية نظام ما بعد 2003 أشد تحدياتها خلال الأشهر القليلة القادمة. فالتأثير المزدوج لوباء فيروس كوفيد – 19 وما يرتبط به من هبوط في أسعار النفط سيمتحن قدرته المؤسساتية الى اقصى حد. وتشير الأرقام الرسمية الى ان العراق تحاشى حتى الآن الاحتمالات الاسوأ على صعيد كوفيد – 19. ولكن اذا تحول الى وباء، فانه على الارجح سيؤدي الى انهيار نظام الرعاية الصحية العراقي الذي يعاني ضعف التمويل وسوء الإدامة، ما سيؤدي الى حالة طوارئ في عموم البلاد سوف تعجز الحكومة عن التعامل معها. والنتيجة قد لا تعني استئناف المظاهرات فورا، ولكن اذا كان اداء النظام هزيلا، فان من شبه المؤكد انها سوف تواجه غضبا شعبيا في مرحلة ما في المستقبل.

ان قدرة الحكومة على حماية خدمات الرعاية الشعبية سوف تضعف أكثر بسبب انهيار أسعار النفط الذي يهدد بانخفاض موارد الحكومة بمقدار أكثر من النصف، ما سيجعلها غير قادرة على تلبية تكاليف  الرواتب والمنافع والخدمات العامة، حتى وإن أجّل العراق صرف كل إنفاقه الرأسمالي (الذي هو مستحيل) ولجأ الى الصرف من حساب الاحتياطي الأجنبي الذي يبلغ حوالي حوالي 55 مليار دولار. ان اتفاقية (اوبك +) الجديدة لربما توفر تسهيلا ماليا على المدى المتوسط، ولكنها لن ترفع الأسعار بمقدار يكفي لتمكين العراق من تغطية احتياجاته للانفاق الجاري. وحتى مع المساعدة الدولية، يتوقع ضرورة اجراء خفض كبير في الانفاق العام. وسوف يتحسس أعباءه عموم الشعب، اما بصورة مباشرة او من خلال تراجع في العقود الحكومية التي يعتمد عليها الجزء الاكبر من القطاع الخاص. ان العقد الاجتماعي للعراق مع شعبه مهترىء اصلاً، ومن المحتمل ان تدفع أزمة مالية طويلة الأمد بصبر الشعب الى حافة الانهيار.

___________________________                      

 (*) عن موقع كلية لندن للاقتصاد (London School of Economics – LSE).

يشار الى ان الكاتب رعد الخضيري كان مساعد السكرتير الشخصي لممثل المملكة المتحدة الخاص في العراق خلال الفترة 2003 – 2004.