لم يكن يوم التاسع من نيسان عام 2003 حدثا تاريخيا عابرا مر في العراق وتلقفه العراقيون بمزيج من الفرح والمسرة والريبة والخشية من الآتي وما تخبئه الأحداث الجسيمة في القادم من الأيام. ولكن قبل هذا وذاك، استبشر العراقيون بسقوط صنم الطاغية وانتهاء مرحلة عصيبة جثمت على صدورهم لأربعة عقود وما يزيد من المرارات والاستلاب وتحمل ما يطاق من ممارسات بربرية فاقت التصور، تعرض العراقيون خلالها لشتى أنواع الاذلال والقمع وطقوس الموت المجاني وتكميم الأفواه وتأسيس جديد لإعادة صناعة الانسان العراقي وتفصيله على مقاساة الطغمة الفاشية، والسعي المحموم لتحول الانسان وقتها الى مخلوق مسلوب الإرادة يخشى من خياله لئلا تطاله يد الجلاد، حتى وان لم يفعل شيئا سوى الأمنيات التي تعتمل في سره بالخلاص من تلك الطغمة وممارساتها السادية وما تسببه من وجع يومي لا يعرفون سبيلا للخلاص منها، حتى ان هناك قولا مشهورا لدكتاتور المرحلة القمعية التي يعترف من خلاله : بأنه يفضل ان يقضي على أي انسان بمجرد الشك بإخلاصه له حتى وان تبين فيما بعد بان ذلك الانسان كان ضحية وانه برئ، لأن ما يؤرق الطاغية ترك انسان مشكوك بولائه وبإبقائه حيا، على ان يبقى ذلك الأمر يسبب له ارقا دائما. هذه الفنتازيا هي التي كانت سائدة في مرحلة سيادة الموت على الحياة الكريمة، فلا غرو أن يستبشر العراقيون بزوال الكابوس والمراهنة على امل سيعيد لهم كرامتهم المصادرة. 

تنفس العراقيون نسيم الحرية رغم انها كانت منقوصة بسبب هيمنة القوى الأجنبية على سلطة القرار الوطني لتأتي تلك القوى المحتلة بأناس هم خليط من انتماءات مختلفة لم يكن العراقيون يعرفون عنهم الكثير، الا ما ندر، مكونات وشخصيات وأحزاب تمثل المعارضة تختلف وتلتقي ضمن مصالح رسمتها لها سلطة المحتل، كانت بمعظمها تنتمي لأحزاب ومكونات الإسلام السياسي، سيما الشيعي منه.

بدأت صدمة العراقيين الأولى ببروز تيارات تتبنى التحيز الطائفي والمذهبي وبشكل علني وفاضح، مما شكل صدمة للعراقيين الذين كانوا يراهنون ببروز قوى وطنية بديلة لسلطة البعث المندحر، بعيدة عن التخندق الطائفي والمذهبي والاثني وغيرها من حالات التشرذم التي أسست لوضع غريب ومستهجن لم يكن العراقيون يرغبون فيه، لأنه سيكون كارثة عليهم وعلى الوضع الجديد الذي كانوا يتأملون منه خيرا.

تتالت التخندقات وسعت أفواج هائلة من المتزلفين والنفعيين والساعين لنيل الامتيازات للانخراط في تلك الأحزاب التي بدورها فتحت كل الأبواب لقبول كل من هب ودب سعيا لتقوية اذرعها بغض النظر عما ستؤول اليه تلك السياسات التي هدفها الأساس التنافس الشديد بين تلك الكتل والأحزاب وما تخلقه من تنافر وخشية وتوجس من لدن شرائح عديدة في عراق ما بعد التغيير، فسعت الى تكريس الانتماءات الطائفية والمذهبية وكشّرت عن انيابها لتصفية الحساب مع شرائح عراقية لا ناقة لها ولا جمل فيما كان يدور من ممارسات في زمن الطاغية، فاختلط الحابل بالنابل، وضاع مقود قيادة البلد للخروج لبر الأمان، فأشيع الفساد والمحسوبية واللصوصية ونهب المال العام وافقار الناس واهمال إعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة بكل تفاصيلها من ماء وكهرباء ومجاري وتبليط شوارع وبناء مجسرات وهيكلة المدن على طراز عصري حديث بوضع مخططات قريبة ومتوسطة الأجل وإيجاد فرص عمل للعاطلين وسواها من الإصلاحات الأساسية والملحة بتوظيف ميزانية الدولة التي كانت متعافية الى حد ما، وبدل ان ينصب اهتمام القادمين الجدد على شمر السواعد لمساعد الوطن لأن يقف متعافيا وبالتالي يتمتع العراقيون بخيرات بلادهم، تم السعي المحموم بين تلك الأحزاب والمكونات للاستحواذ على مقدرات البلد والحصول على الامتيازات الهائلة وبالتالي افراغ ميزانية العراق وخلق حالة من الفوضى في قيادة العراق، بحيث بات كلٌ يسعى على الاستحواذ على  نصيبه من الكعكة، تاركين العراق يتخبط في فوضاه، والعراقيين يغرقون في جوعهم وسغبهم ومعاناتهم اليومية واحتياجهم لأبسط مستلزمات الحياة الكريمة.

ومما زاد الطين بلة، ان قوى الفساد والخراب تلك فتحت العراق على مصراعيه للتدخل الأجنبي والعبث بمقدرات البلد ووضع مستقبل العراق تحت رحمة تلك الدول المعادية والتي كانت تتحين الفرص للانقضاض على هذا البلد الذي يفتقر لسلطة وطنية حريصة على وحدة البلاد واستقلالها، بعيدة عن أي تدخل اجنبي، اذا ما اريد للعراق ان يبتعد عن التخندقات الطائفية ووضعه تحت رحمة من يريد له الشر وابقائه متخبطا في خرابه وفوضاه.

الأنكى من ذلك ان تلك القوى الفاسدة والساعية لتدمير العراق وضعت البلد والشعب تحت رحمة المليشيات المختلفة والتي أعلنت وتعلن دون خشية او حساب بانها تخضع لسلطة القرار الأجنبي وإنها باتت الاذرع القوية لتدمير أي مسعى لخروج العراق من هذه المحنة.

يبقى الامل لإنقاذ البلاد والعباد بيد المنتفضين الاحرار من الشباب الثائر الذي أرعب الفاسدين واللصوص واعداء العراق من بعض العراقيين العاقّين وغيرهم، والأمل ببعض الوجوه التي تدعي السعي لإيقاف نزيف تدمير العراق.

لهذا نقول ونحن نعاني من غصة حقيقية، بأن التغيير الذي حصل في التاسع من نيسان من عام 2003 والذي بنى العراقيون عليه الآمال قد أفسده فرسان المحاصصة المقيتة والطائفيون والفاسدون، لعل القادم من الأيام ومن الرجال الأحرار يحيون الأمل في نفوس العراقيين من جديد بانتزاع العراق من قبضة الخونة واعادته الى أبنائه المخلصين، وليس هذا الأمر بغريب عن العراقيين الأصلاء وما اكثرهم.

 

عرض مقالات: