اجتاحت عدوى خرق حقوق الإنسان الجسم الأوربي الذي ما فتئت بلدانه تحث الدول "المتخلفة" على احترام حقوق الإنسان، حيث تم تصعيد لهجة التصريحات المناهضة للهجرة وتقييد حقوق وحريات اللاجئين وطالبي اللجوء السياسي، ففي إسبانيا بلغ التقييد على حرية المهاجرين المغاربة مثلا إلى حد منعهم بوسائل زجرية عنيفة من التظاهر السلمي. إن التضييق على الحقوق والحريات الأساسية للإنسان بذريعة ضرورات مواجهة "الإرهاب"، يعد من الأسباب الرئيسية لتشجيع الإرهاب وتناميه، بل إنه أسهم إلى حد كبير في تراجع حدة التعاطف الدولي والشعبي مع ضحايا الأحداث الأمريكية وعدم الثقة في جدية ومصداقية هذه الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد ما تسميه "إرهابا".
وإذا كانت دول أوربا قد تنبهت إلى المخاطر والتحديات الآنية والمستقبلية التي تفرضها هذه التحولات، وبالتالي عززت من تنسيقاتها وضحت بالعديد من عناصر سيادتها في سبيل تقوية الاتحاد الأوربي، الذي أضحى شكلا نموذجيا ضمن التنظيمات الإقليمية المعاصرة، وبخاصة بعد أن تمكنت مجموعة من الدول من الانضمام إليه مؤخرا، فإن جامعة الدول العربية وعلى الرغم من ولادتها المبكرة قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي نفسه، لازالت تقبع في ركودها، ولم تتمكن بعد من تطوير نفسها، رغم المحطات الحاسمة والمستفزة التي اجتاحت الدول العربية، من قبيل الحروب العربية - الإسرائيلية وحرب الخليج الثانية وما تلاها من تهافت واعتداء على الدول العربية كان آخرها احتلال العراق، الأمر الذي جعلها لا تعكس تطلعات وآمال الشعوب العربية، على الرغم من الشعارات القومية والوحدوية التي رفعتها الكثير من الأنظمة العربية منذ عدة سنوات خلت، بحيث لم تتمكن من صياغة تصور عربي موحد إزاء العديد من القضايا والأزمات العربية، مما أضعف مواقفها الدولية وقدراتها التفاوضية، وفتح المجال واسعا أمام تدخلات عديدة وبمختلف الأشكال في المنطقة العربية . فالولايات المتحدة التي طالما أثارت ضجة دبلوماسية وسياسية خلال مناسبات ،اعتقل أو اختطف فيها أمريكيون بمختلف أنحاء العالم بغية إطلاق سراحهم أو محاكمتهم بشكل عادل في بعض الأحوال وفقا للقوانين والمواثيق والإعلانات الدولية والإنسانية المرعية، تفرض صمتا دوليا – قوامه المصالح المتبادلة - على خروقاتها السافرة لحقوق الإنسان "غير الأمريكي".
إن الحماية الدولية لحقوق الإنسان لا تخدم وتهم فقط الإنسان الغربي. "المتحضر" بقدر ما هي موضوعة لحمايته وإذا كان من المنطقي أن تتفاعل معظم الأزمات والقضايا الدولية وتتأثر بمحيطها والظرفية التي تمر بها، فإن القضية الفلسطينية التي تشكل مركز الصراع العربي - الإسرائيلي تدخل ضمن هذا السياق، ذلك أن تعامل القوى الدولية مع هذه القضية سواء المنظمة الأممية أو الأقطاب الدولية الرئيسية أو حتى الدول العربية والإسلامية وإسرائيل أيضا تغير وتباين بحسب الأجواء والظروف الدولية السائدة، سواء تعلق الأمر بظروف الحرب الباردة أو تلك التي نجمت عن انهيار الاتحاد السوفيتي واندلاع أزمة الخليج الثانية أو بما أفرزته أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001 من أوضاع وترتيبات وظروف جديدة، فهذه القضية تفاعلت وتأثرت ولا زالت تتفاعل سلبا أو إيجابا وتطرح بحدة خاصة مع اندلاع بعض الأزمات الدولية الكبرى. شكلت أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001 محطة هامة، أثرت في مسار العديد من القضايا الدولية بشتى أنواعها وتجلياتها، ولا شك في أن القضية الفلسطينية ضمن قضايا عربية عديدة أخرى، كان لها نصيبها من التأثر بهذه الأحداث المهولة، فهذه الأخيرة جاءت في وقت شهدت فيه الانتفاضة الفلسطينية نجاحا كبيرا، وحققت إشعاعا دوليا مهما .
وعقب أحداث 11 سبتمبر التي تمت في العمق الأمريكي واستهدفت رموز القوة الأمريكية في تجلياتها العسكرية والاقتصادية بالشكل الذي قلّص من هيبة هذه الدولة وقدرتها على تأمين ترابها وشعبها، بدا أن هناك مقاربة جديدة لتعامل هذه الدولة مع هذه المنظمة، بحيث أبرزت الممارسة الميدانية منذ ذلك الحين أن ما تسميه وتعتبره الولايات المتحدة ضرورات أمنها القومي هي فوق كل مشروعية وقانون دوليين، فأمام الرفض الدولي لاستغلالها بشكل منحرف لهذه الهيئة والذي أصبح واضحا أمام الجميع، اختارت هذه الدولة فرض الأمر الواقع والمقاربة السياسية بعيدا عن هذه المنظمة الدولية، وحاولت القفز على أية ضوابط قانونية دولية طالما رأت في اللجوء إليها عائقا يقيّد تحركها بحرية أو يكلفها إجراء تكييفات ضيقة ومنحرفة تحرجها دوليا. وإذا كانت هذه الاستراتيجية قد استخدمت بشكل أقل خلال تدخلها العسكري في أفغانستان بذريعة ممارسة حق الدفاع الشرعي بموجب قرار انتزعته من مجلس الأمن في حينه، فإن هذه الاستراتيجية قد انكشفت بشكل عارٍ وجلي خلال العدوان الأخير على العراق واحتلاله عام 2003، والذي رفضته معظم دول وشعوب العالم وحالت الدول الكبرى دون شرعنته بقرار من المجلس، وهي سابقة تشكل منعطفا خطيرا لتكريس هذه السياسة الواقعية التي تنم عن ثقة خيالية في النفس واستهانة كبيرة بقوة القوى الدولية الصاعدة الأخرى والأمم المتحدة التي أقرت في آخر المطاف بواقع الأمر ولم تستطع التنديد بالعمليات أو إيقافها، أو حتى استثمار الإمكانيات التي يتيحها الميثاق الأممي لحفظ السلم والأمن الدوليين من خارج إطار مجلس الأمن الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة وبريطانيا بحق الاعتراض، وذلك عبر تحريك قرار الاتحاد من أجل السلم الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة بمقتضى قرارها رقم 377/5 بتاريخ 4 نوفمبر 1950 بأغلبية أعضائها والذي يتيح لها تحمل الالتزامات الدولية المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين في حالة عجز المجلس عن أداء وظائفه في مباشرة عدوان أو تهديد أو خرق للسلم والأمن الدوليين جراء استخدام حق الاعتراض. فأزمة الخليج الثانية وأحداث 11 سبتمبر والعدوان على العراق واحتلاله وما أكده من هشاشة هيئة الأمم المتحدة ونسبية دورها في المحافظة على السلم والأمن الدوليين وانفراد الولايات المتحدة بتدبير الشأن الدولي، دفع بمعظم الدول إلى تحصين ذاتها ضد المخاطر المحتملة، سواء من خلال نهج إصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية أو تعزيز العمل الجماعي في إطار تنظيمات إقليمية متينة.