مازالت ملابسات الانتحار الجماعي للفتيات المشردات المحجوزات في دار التأهيل في الاعظمية موضع جدل وتجاذب بين منظمات المجتمع المدني والشخصيات البرلمانية وردود الفعل الرسمية. وتميزت  ردود الفعل الرسمية هذه بالاقتضاب والدفاعية. والقت نتائج التحقيق الذي نشرته جريدة "طريق الشعب" الغراء بعض الضوء على الجوانب المتعلقة بإدارة المركز وكفاءة بعض العاملين فيه ، الا ان هناك جانبا آخر متعلق بالأهداف التأهيلية من هذا المركز وما الذي يمكن ان تحققه للنزيلات المحتجزات ، فمن المعلومات المتوفرة ان النزيلات محجوزات قسرا وفق قرارات قضائية  اتخذت على أساس تقييم  المخاطر على أنفسهن او الآخرين وايضا مستوى القدرة العقلية للنزيلة بسبب العمر او الحالة العقلية لان الفتيات في حالات مثل هذه تزداد لديهن نسبة الإصابات النفسية والتخلف العقلي وأمراض التوحد والامراض العضوية التي تصيب الدماغ وبشكل خاص الفص الأمامي. الجانب المهم الثاني هو   ابعاد هذه الحادثة فيما يتعلق  بمستوى ومضمون الرعاية في المؤسسات المعنية بشؤون الأحداث والنساء وسلامة نزلائها.

واذا أخذنا بنظر الاعتبار العوامل التي ممكن ان تؤثر وتتفاعل في مؤسسة تأهيلية مثل هذه فيمكن تلخيص أهداف ومخرجات اي تحقيق او تدقيق موضوعي  في مركز من هذا النوع يجب ان يشمل الجوانب  التالية

١. سلامة تواجد المركز وسط منطقة سكنية في بغداد تتصف كما يبدو بحصانة متوسطة لمنع خروج النزيلات او دخول غرباء الي الدار وايضا مدى صلاحيتها من ناحية الموقع والتصميم الداخلي والمساحة وبضمنها المخصصة للحديقة او الغرف لأغراض التأهيل

٢. ان النزيلات فتيات بإعمار صغيرة نسبيا وفي مراحل متباينة من النضوج النفسي والجسدي والاجتماعي، قضين حياتهن مشردات في الشوارع والتي تحمل معها مخاطر الاستغلال الجسدي والنفسي والمالي والإدمان على المخدرات وارتكاب جرائم او وقعن ضحية اعمال اجرامية من أفراد او عصابات مافيوية. فالنمو الجسدي لا يعني بالضرورة نموا نفسيا او اجتماعيا او انفعاليا  ايضا. لذا يتجسد الشعور بالإحباط والاغتراب بالميل الى التمرد والعنف الذي يتجلى في السلوك اليومي للنزيلة وطريقة تعاملها مع الضوابط التي تحكم حياة المحتجزات حتى وان كانت ضرورية، التي ينظر اليها على أنها تقييد للحرية غير مبرر ويتم اللجوء الى العنف خاصة لمن لديهم صعوبة في التعبير عن النفس او يتميزن بحساسية عالية

٣. هناك أسباب نفسية اجتماعية تشكل سببا ونتيجة للتشرد والحرمان والاستغلال بحاجة الى التقييم ايضا.

٤.مدى توفر برامج تربوية وتعليمية وتأهيلية وثقافية وفنية مناسبة وماهي تبعات عدم توفرها.

٥. نظرة تاريخية لمحاولات الانتحار او حالات انتحار سابقة للنزيلات  وكيفية التعامل معها قبيل واثناء وبعد المحاولة. ومن الضروري تدقيق حادث الانتحار والذي طبيعته الجماعية تثير استفسارات حول مسبباته وأهدافه وايضا طريقة الانتحار ذاتها عبر الحرق كونها تحتاج مواد تساعد على تحقيق ذلك

٦. مستوى الفريق المشرف على الدار وتشمل الإداري والمعالج والتأهيلي النفسي والاجتماعي من ناحية الكفاءة والمهنية والخبرة النظرية والعملية والمهارات للتعامل مع حالات معقدة من هذا النوع

٧. وجود سياقات توضح الطرق والاليات المستخدمة لتقييم النزيلات في حالة قبولهن من قبل الدار والخطط العلاجية والتأهيلية حسب الاحتياجات الفعلية لكل نزيلة والتقييم الدوري للحالة النفسية والعقلية والسلوكية والاجتماعية والمخاطر والأهداف الموضوعة المستقبلية لكل نزيلة باعتبار ان التأهيل كي يكون ناجحا يجب ان تحقق نمو تطلعات لما هو المرتجى في نهاية الفترة العلاجية باعتبار ان الدار ليست سجنا بل مرحلة محددة في حياتهن لإعادة زرع الثقة والأمل والتطلع الى مستقبل يحقق طموحات إنسانية وان كانت متواضعة في حياة آمنة وكريمة.

واذا حاولنا الاستفادة من المعطيات العلمية عن مراكز تأهيلية مماثلة عربيا او عالميا و التي تشير ان نزيلات بهذا العمر والخلفية الاجتماعية لابد وان تكون هناك نسبة عالية من الأمراض العضوية والنفسية  تتطلب التقييم والعلاج والمتابعة مثل مرض الفصام او الكآبة او التوحد او من خلل في القدرة العقلية وغير ذلك ، ولهذا فان الإحالات الى المركز يجب ان تخضع لفحص طبي ونفسي دقيق والذي يتم على اثره وضع خطة علاجية محددة قد تتضمن الأدوية والعلاجات النفسية والاجتماعية والتدريسية والذي يتطلب لتحقيقه عملا مشتركا بين الخدمات الصحية النفسية والاجتماعية والتعليم. الا ان المؤكد ان حالة الحجز القسري ووجود خلفية اجتماعية مضطربة وحالة نفسية معقدة تزيد من الشعور بالسخط والحرمان والاغتراب وتؤدي الى تزايد نسب ومستويات العنف ضد النفس تتجلى في محاولات الانتحار وتشويه وتقطيع الجسد بآلات جارحة او بالانتحار وايضا ضد الآخرين باستخدام اليد او الآلات والأدوات الجارحة وقد تصل الي حد ارتكاب القتل.

وتمثل هذه تحديات حقيقية يتطلب التصدي لها  فريقا يدير المؤسسة اداريا وفنيا مدربا بشكل جيد مهنيا ومستوعبا للفلسفة الحديثة في إقامة منشآت من هذا النوع. فالإداري يعرف حدود مسؤولياته وصلاحياته  وطبيعة عمل المؤسسة من الجوانب التأهيلية والتربوية وايضا نقاط قوة وضعف المكان. أما رجل الأمن فيجب ان يكون مطّلعا على ما المقصود بالأمن في هذا النوع من المراكز بما يتناسب مع المحتوى العلاجي والتأهيلي الذي يجب ان يكون الأساس ومحور النشاطات. اما الفريق الذي يتناول وضع وتطبيق الخطط العلاجية فيجب ان يكون متكاملا عبر توفر كادر لديه  المهارات النفسية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والرياضية ومطلع على متطلبات واهداف الرعاية ومشارك في دورات وورشات تأهيلية تعليمية لرفع القدرة  ويتم تقييم أدائهم سنويا على أساس معايير مهنية واضحة ومعروفة للجميع حول جوانب الجودة والنوعية والاداء الجيد ويتم توثيق التقييم واقتراح برامج تربوية وتعليمية على ضوئها. عراقيا هناك الكثير من الكفاءات  داخل العراق وخارجه الذين بإمكانهم توفير هذه البرامج التثقيفية ودعم مؤسسات من هذا النوع.

ومن المهم ايضا في مراكز مثل هذه تفحص المنشأة  ذاتها  للتأكد من ملائمة البناء للأهداف التأهيلية من ناحية المساحات ونوعية الغرف وتسهيلات النظافة الشخصية  وطبيعة ونوعية الأكل.. إلخ.. جانب اخر مهم هو كيفية تطبيق مستلزمات الحصانة لتقليل المخاطر وهناك نوعين من الحصانة بالمفهوم الضيق وهو الأسوار العالية والنوافذ التي لا يمكن الوصول اليها والمغطاة بشبكات من الحديد وهي بالتأكيد مهمة ولكن الأهم هو معرفة حالة النزيلات خاصة وتحسين اوضاعهن النفسية والاجتماعية والمالية الذي يسهم في تقليل في المخاطر.

الخطوة القادمة هي عبر تشخيص فريق  عمل متخصص يضم قاضيا وممثلا عن وزارة الداخلية وطبيبا نفسيا له خبرة في الطب النفسي العدلي وباحثة اجتماعية يقوم بفحص ودراسة واقع هذه المؤسسة ومتطلبات تعزيز دورها، وتقديم مقترحات ملموسة وبأهداف زمنية لتقديم المخرجات مع مقترحات  في فترة لا تتجاوز ثلاثة اشهار ويشمل التدقيق كافة المؤسسات المتواجدة في بغداد وخارجها ذات العلاقة بإيواء المشردات في القطاع الحكومي والخاص لان هذه الحادثة المأساوية تثير أسئلة عدة حول مراكز التأهيل للأحداث والمراهقين ايضا  والذي يتطلب من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في جمهورية العراق ان تجري جردا لهذه المراكز وان تدقق أوضاعها الإدارية وبرامجها التأهيلية ومستوى الرعاية ومدي مطابقته للقوانين العراقية وحقوق الانسان بشكل دوري وعلى اساسها تتم اجازة هذه المراكز ، وان يتم تقديم تقارير دورية الى رئاسة الوزراء والبرلمان العراقي لمناقشة وتطبيق المقترحات المقدمة.

ويمكن الاستفادة من الجامعات العراقية ومؤسسات الصحة النفسية والدعم الاجتماعي لإجراء بحوث عن طبيعة عمل هذه المراكز ومدى مطابقتها مع المواصفات العراقية والعالمية.

ـــــــــــــــــــــــــــ

* زميل كلية الأطباء النفسية في بريطانيا ودبلوم في علم الإجرام

عرض مقالات: