منذ مئة عام  لم يشهد العالم انتشار لمرض فايروسي معدي مثل ما حدث في ٢٠٢٠ والذي صنفته منظمة الصحة العالمية  بمستوى وباء يهدد البشرية ككل والذي بدأ في الصين وانتقل سريعا الى بلدان أخرى وخاصة إيران وإيطاليا واسبانيا وإنكلترا وعدد من الدول الأخرى ، وانتقل الى العراق أيضا.

وتمثل الاستجابة الصينية مثلا جيدا في التعامل الميداني والاستراتيجي سواء في الجانب الوقائي تطبيقا لمتطلبات الصحة العامة او العلاجي فقامت بعزل ملايين الأشخاص في منازلهم لمنع انتشار المرض وتقليل عدد الحالات الجديدة وشمل أيضا منع استخدام وسائل النقل وإغلاق المصانع والدوائر والمؤسسات الحكومية وإيقاف كافة الفعاليات والأنشطة الاجتماعية والعلمية. كما سارعت بتعظيم قدرات المؤسسات الصحية فشيدت مستشفيات خاصة لمواجهة كورونا بوقت قياسي غير مسبوق وسخرت جميع الخدمات الاقتصادية والتكنولوجية العملاقة التي تملكها لتوفير المواد والأجهزة الصحية اللازمة للتصدي لهذا الوباء وايضا للتعامل الفعال لاحتواء التداعيات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية لهذا المرض الفيروسي

وقد اصبح معروفا ان فيروس في  كوفيد ١٩ هو من عائلة فيروسات تنتسب اليها أنواع  متعددة أخرى بعضها   تسبب أشكالًا بسيطة من الرشح الى أخرى اكثر خطورة مثل متلازمة اضطراب التنفس الحاد في الشرق الأوسط والذي انتشر في السعودية ونوع سارس الذي انتشر في الصين. ويتميزهذا النوع الجديد من ما يسمى احيانا بالفيروس المستجد بأعراض حادة وشديدة خاصة في الجهاز التنفسي  والانتشار السريع والتي تم توثيقها بالعديد من النشرات الصحية المتخصصة او للتوعية العامة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية ومعظم الدول المتقدمة. ومن خصائص كوفيد 19 الاخرى قدرته على الطفرات الجينية  والتي هي عقبة إزاء رسم نموذج يحدد مساره المستقبلي بشكل دقيق.

أما عراقيا فقد صرح وزير الصحة الدكتور جعفر علاوي مؤخرا من صعوبة الشهر القادم الذي يحمل مخاطر انهيار الوضع الصحي في حالة تفشي الوباء وفشل  الإجراءات لوقف انتشار الفيروس. ولكن وعلى الرغم من التصريحات  الإعلامية يبقى التنفيذ الفعلي للسياقات المرسومة على الورق ضعيفة نتيجة هشاشة الوضع الصحي والنقص الكبير في المعدات الطبية والادوية الضرورية التي لا ترتقي الى متطلبات التصدي الفعلي  لتفشي الوباء وانعدام الدعم المالي المطلوب بسبب عدم توفير ميزانيات معقولة لدعم الجهاز الصحي  في العراق وهي الأقل مقارنة ببلدان الشرق الأوسط  وتفشي الفساد والهدر المالي التي تقودها مافيات في وزارة الصحة ، وأيضا  انتشار الأفكار  الذي تروج له بعض الاوساط الدينية على الضد من توجيهات وفتاوى المرجعية في النجف وضعف في تنفيذ قرار الحجر الذاتي  ومنع التجول من قبل المواطنين  للتقليل من انتشار الفيروس خاصة في المناطق الشعبية ومناطق السكن العشوائي يرافقه قلق من ضعف تزويد الكوادر الصحية في الخط الأول لمعالجة الوباء بالمتطلبات الضرورية لحماية أنفسهم من خطر الوباء.

ولكن لهذا الوباء الذي يهدد الشعب والمجتمع العراقي بسبب سرعة انتشاره وقدرته على الاستحالة على شكل طفرات جينية ابعاد تتعدى الفضاء الصحي وتمتد الى تداعيات تشمل مدايات اقتصادية وأمنية وسياسية ومالية واجتماعية  تهدد الأمن الوطني العراقي والذي يعنى ضرورة ان تتعامل الجهات التنفيذية والتشريعية والقضائية معها ليست مجرد أزمة طوارئ صحية لمواجهة مرض صحي معدي سريع الانتشار يمكن احتوائها عبر إجراءات عاجلة بل تتطلب التصدي لها على أساس خطة وطنية شاملة  متكاملة  تتعامل مع الأوضاع المحتملة ومنها التحضير لاحتواء  السيناريو الأسود خاصة في حالة انتشار سريع للوباء وهبوط حاد في مستوى الأنشطة الاقتصادية وشحة الموارد الغذائية والدوائية، خاصة وان العالم لم يشهد لحد الان سوى قمة الجبل الجليدي على حد وصف المدير العام لمنظمة الصحة العالمية.

ومن اخطر جوانب الأزمة الحالية ان هذا الوباء قد تفشى في فترة يواجه العراق تحديات كارثية خطيرة  تهدد بانهيار شامل نلخصها  بالاتي:

أولًا - السياسي  بسبب استمرار القوى المتسلطة على فرض المحاصصة والتبعية للقرار الأجنبي  وعرقلة تكليف رئيس وزراء يحظى  بثقة  الشعب لإدارة حكومة انتقالية ذات صلاحيات واسعة قادرة على قيادة عملية التصدي لهذا الوباء والسيطرة على انتشاره وعلى أساس سياقات واقعية تعتمد متطلبات إدارة المخاطر لتحويل القدرات والموارد البشرية والمادية من جانب لآخر وتفرض سلطة القانون للقضاء على مافيات الفساد التي تغتنم ضعف القيادة التنفيذية  بعد استقالة واعتكاف رئيس الوزراء السابق،  خاصة ما يتعلق  بالسلع الاستراتيجية في مجالات الدواء والأجهزة الطبية والغذاء والوقود وتصعيد نشاطاتها لنهب الأموال ونقلها الى خارج العراق.   

 ثانيا -  تقلص موارد الدولة التي تعتمد بالدرجة الأولى على الوارد النفطي التي وصلت الى مستويات هددت الدخل  الوطني وتعمق ازمة  النظام الاقتصادي الهش الذي وصل الى مستويات غير مسبوقة فاقمت منها ما يروج له مؤيدو السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المصابة بهوس الخصخصة وتحطيم القدرات الصناعية والزراعية  التي تقودها الدولة ومحاربة الإنتاج المحلي  إضافة الى الدمار الذي تتركه  مافيات غسل وتهريب العملة الصعبة من العراق الى إيران ودول الجوار لاعتبارات ولائية وسرقة خزينة العراق من العملة الصعبة  والذي ان ترك سائبا سوف يودي الى انهيار اقتصادي ومالي.  

 ثالثًا - عدم وجود ميزانية وقانون ينظم السنة المالية لعام 2020  والتي تستطيع الحكومة معالجتها ان توفرت الإرادة بإعلان   ميزانية مالية طوارئ وبالتنسيق مع البنك المركزي تعتمد تعظيم ما موجود من  رصيد مالي وطني  عبر سياسة تقشف تستثني الفئات الاجتماعية الفقيرة والتركيز على النظر في رواتب ومخصصات الدرجات العليا والذين يستلمون عدة رواتب بذرائع مختلفة والموظفين الفضائيين خاصة في وزارة الدفاع والجيش والحشد الشعبي وغلق مزاد العملة والمصارف الوهمية التي هي ليست سوى مكاتيب لتحويل العملة الصعبة تدار من غرف مغلقة وتملكها شخصيات متنفذة في الدولة، والاهتمام بدعم وزارة الصحة وتوفير المواد الصحية والأغذية مع الحذر من تبعات إلقاء كاهل سياسات التقشف على الدرجات الوظيفية الدنيا والمتقاعدين.

رابعًا - تعزيز سلطة القانون أمام المافيات والميليشيات المسلحة والتنظيمات والعشائر المنفلتة  تستخدم السلاح  لتصفية نزاعاتها بدل من الاحتكام الى القضاء    

 خامسًا - معالجة الخلل المزمن في عدم تمويل وزارة الصحة ودعمها بالكوادر البشرية اللازمة كمئات الأطباء الذين ينتظرون التعيين وبالتعاون مع نقابة الأطباء وتخصيص الميزانية المطلوبة ومنع المضايقات من قبل الأجهزة التي تمنع وصولهم الى مراكزعملهم او الاعتداء عليهم او المطالبات العشائرية عبر التشريعات القانونية المناسبة والتي تتطلب ان يمارس البرلمان العراقي دورة بدلا من حالة السبات التي يمر بها حاليا. هذه الخطوات ستسهم في تمكين القدرات الصحية الوطنية للتصدي الفعال  للوباء وتأخذ دورها في رسم وتنفيذ برنامج للرصد والتشخيص والمسح والمتابعة وتطبيق شكل مناسب من الحوكمة على التنفيذ وتطبيق الإجراءات والسياقات الوطنية للتصدي للوباء وأيضا توفير الأجهزة الطبية والمعدات والأدوات المطلوبة للحفاظ على سلامة الفريق الطبي وكل العاملين في المؤسسات الصحية وتكثيف البرامج التدريبية في مختلف الجوانب. هذه الخطوات ضرورية لتعزيز الثقة بقدرة ومصداقية المؤسسة الصحية لدى الشعب العراقي وتسهم في تعزيز وبناء جسور الثقة مع المواطنين.

 ويجب على السيد وزير الصحة رسم برنامج طوارئ يتناول في بعض اجزائه تقييم وإدامة الخزين الدوائي بأنواعه المختلفة المتواجد في مخازن وزارة الصحة والقطاع الخاص وايجاد صيغة ميدانية  فاعلة للسيطرة على هذا الخزين وباعتماد السياقات القانونية المناسبة لان القطاع الأكبر في استيراد الدواء هو القطاع الخاص وهناك شبهات كبيرة في صلاحية الدواء أو اعتماد مناشئ غير رصينة وبالتنسيق الفعال مع نقابة الصيدلة  والاشراف عليه كيماويا والقضاء على دور المافيات المتحكمة في وزارة الصحة بعقود الدواء والأجهزة الطبية

سادسا – المزيد  من الاهتمام بالدور الذي تقوم به وزارة الصحة والمؤسسات الإعلامية من برامج توعوية والتي يجب ان تشمل  التداعيات النفسية ومحاربة الشعور بالوصمة الذي يعيق عملية  التعاون مع المواطنين لتنفيذ الحجر الطوعي والتعاون مع خدمات الرصد والتشخيص والمعالجة والمتابعة. واعتماد التضامن والتعاون والثقة كأساس في العلاقة مع المواطنين ورسم برامج مجتمعية لدعم التلاحم الاجتماعي الذي تستطيع ان تتفاعل معه وتقوده منظمات المجتمع المدني والأهلية العراقية.

عرض مقالات: