عندما غادرنا العراق قبل أربعين سنة !.. 
كانت عيوننا شاخصة نحو شيء اسمه بلد الاباء والأجداد !.. وبعد احتلال العراق في 2003 م كنا نتلهف بالعودة الى وطني !.. في الخليج الذي يسأل عني .. أين مني مهد الصبا أين مني ؟!.. 
نهاية تموز 2003 م عدنا الى مسقط رأسنا  بهرز  ، على أمل أن نضع الرحال ونستريح من عناء الغربة ومثالبها ، ونغادر الذل والشقاء والعذاب الذي عشناه ، والبعد عن الأهل والأحبة والخلان !..

استبشرنا خيرا !.. تمضي الأيام والأشهر .. وتتضح لنا أُمور نجهلها وحقائق مرة أصبحت تقض مضجعنا ، ومنها بدأنا نشعر بالاغتراب ونحن بين الأحبة والأهل، وفي نفس الأرض التي ولدنا في مرابعها وفي أفيائها وظلالها ومروجها وبساتينها !..

تغيرت أُمور كثيرة لم نألفها من قبل !.. وحتى البعض كان ينظر إلينا وكأننا جئنا من كوكب زحل ، أو المريخ أو عطارد ؟.. 
ولم نكن قد خرجنا من رحم تلك الأرحام الطيبة المعطاء والكريمة ، ناهيك عن تململ القوى الإرهابية لتعبث بأمن البلاد والعباد في أواخر عام 2004 م ، الذي بدء فيه العد العكسي بدوران عجلة الموت والإرهاب والعنصرية ، وثقافة التصحر والجهل والسلفية ، وتكريس نهج الطائفية السياسية العنصرية البغيضة ، من خلال القتل والتشريد والتهجير لدواعي ( طائفية وقومية  وعلى أساس المنطقة والدين  ، هذه الثقافة التي كادت أن تندثر في أنحاء المعمورة والتي استمرت في العالم الغربي لما يقرب على ألف عام ، واليوم تعود إلينا نفس الثقافة ونفس الفلسفة ونفس ذلك النهج والسلوك ، فتخرج من رحم لا يختلف في جوهره وفحواه وأهدافه ، عن تلك القوى التي عاثت في الأرض فساد لمدة تقارب الألف عام . ولهذه الأسباب ولغيرها عدنا من جديد وأبصارنا شاخصة الى بلدان الاغتراب التي أشعرتنا بالأمن والأمان وبشيء من الاستقرار الذي افتقدناه على أرضنا وفي وطننا وبين اهلينا واحبتنا وأبناء جلدتنا وقومنا !..

أين يكمن الخطأ ؟ .. 
هل هو في تكويننا وفي جيناتنا وبجنسنا ؟..

أم في نمط تفكيرنا وفلسفتنا وثقافتنا ؟.. أم لا هذا ولا ذاك ؟؟ .. أم في نظامنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقيمي ؟.. 
أم في كل ما ذكرناه وأشياء أخرى ؟.. 
أنا أعتقد بأن جلد الذات لا يجدي نفع !.. 
ولا يغير من الأمر شيء من دون العمل الجاد والمساهمة الفاعلة من الأغلبية الساحقة من الناس ، وفي مقدمتهم العلماء والمفكرين والمثقفين بكل شرائحهم ومسمياتهم ، من خلال تبيان الحقيقة للسواد الأعظم من الناس ، والوسيلة الناجعة والسبيل الأسلم نحو حياة إنسانية يتعايش فيها الجميع ، بحرية وكرامة وعيش رغيد ، وحث هذه الأغلبية بالمساهمة الفاعلة والنشيطة والفعلية ، لتغيير هذا الواقع . وبعكسه ، ستستمر عجلة التخلف والتصحر والموت والدمار والخراب تدور ، حتى تتمكن قوى التغيير أن تفعل فعلها  وتأخذ بالمبادرة لتغيير هذا الواقع ، من خلال إيقاف قاطرة الموت والخراب ، وتحريك عجلة قاطرة الحياة بديلا عنها وعن ألامها وكوارثها .

وفي تلك الحالة ستكون الأرض كل الأرض في عالمنا الفسيح ، مقرا ومستقرا ومفر .. ومكان أمان وسلام ورخاء وتعايش لكل بني البشر ، وسيستأنس الجميع بجمال الحياة الفاتنة الساحرة ، وينعموا بخيرات الأرض ما ظهر منها وما هو في باطنها ، ونسترخي في أي بقعة من بقاع الأرض ، ونستمع للسيدة ماجدة الرومي وهي تشدو بصوتها الساحر ( كم جميل لو بقينا أصدقاء ) ولمن يشتاق لبقعة أرض قد عشقها وأحبها وما له من ذكريات في ربوعها ، فليذهب ويصغي للصوت الصبوح المفعم بالدفيء والعاطفة والحنين في أغنيتها الرائعة السيدة فيروز ( سنرجع يوماً إلى حيّنا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمرّ الزمان وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلاً ولا ترتمي على درب عودتنا مُوْهَنَا
يعزُّ علينا غداً أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا
هنالك عند التلال تلالٌ تنام وتصحو على عهدنا
وناسٌ هم الحبُّ أيّامهم هدوء انتظار شجيُّ الغنا
ربوع مدى العين صفصافها على كلّ ماء وَهَى فانحنى ) .